حقق الفيلم الوثائقي "لا أرض أخرى" ما لم يحققه فيلم فلسطيني آخر، العام الماضي حاز جائزتين في مهرجان برلين السينمائي، الفوز المزدوج جاء من الجمهور ومن لجنة التحكيم، حيث جائزة جمهور البانوراما عن فئة أفضل فيلم وثائقي حَسَبَ تصويت الجمهور، وفاز بجائزة بيرليانالي عن فئة أفضل وثائقي. وقبل أيام فاز الفيلم بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي في دورتها السابعة والتسعين. الاعتراف الموصول بين ضفتي الأطلسي من برلين أحد المهرجانات الأوروبية الثلاث الكبار جنباً إلى جنب مع كان وفينيسيا، ومن الأكاديمية الأميركية، يعد خرقاً في ستار حديدي طالما وقف في وجه السردية الفلسطينية.
لكن "لا أرض أخرى" ليس فيلماً فلسطينياً خالصاً. الرباعي الذي أخرج الفيلم، يضم بالإضافة إلى الفلسطينيين، باسل عدرا وحمدان بلال، إسرائيليين هما يوفال أبراهام وراحيل تسور. يبدو التعاون مع الإسرائيلي هي جواز السفر للفلسطيني حتى يتجاوز أسوار الفصل العنصري الثقافية. تلك الشراكة الإسرائيلية-الفلسطينية تداعب الخيال الليبرالي الرومانتيكي للمؤسسات الفنية الغربية، حيث مد الأذرع بين الطرفين قد يمنح أملاً للسلام في المستقبل. وضمناً يتضمن ذلك مديحاً مستتراً للطرف الإسرائيلي الخارج على جماعته للدفاع عن حقوق الأعداء، بينما الفلسطيني الغارق في هشاشته ليس لديه الكثير من الخيارات سوى قبول التضامن وربما الشعور بالامتنان. ذلك الاختلال الفادح في موازين القوى بين الطرفين يعترف به الفيلم ويعترف به صناعه أيضاً في كلماتهم حين يتسلمون الجوائز. إن تلك الهشاشة تنسحب أيضاً على حاجة الفلسطيني لاكتساب الاعتراف من المؤسسة الغربية التي داومت على قمعه وترويج خصومه، في عالم تحكمه المركزية الغربية يبتهج الفلسطيني لنيل اعتراف معنوي من أحد مؤسسات هوليوود التي لطالما روجت السردية الصهيونية وشوهت صورة الفلسطيني.
الجدير بالذكر أنه في ذات الدورة التي كرم فيها "لا أرض أخرى"، حصد الفيلم الأميركي "الوحشي" المتمركز حول سردية الهولوكوست عشرة جوائز للأوسكار. يخدم الفيلم عملية التذكير الدوري بالمحرقة وجعلها مركز المأساة الإنسانية والمعيار المثالي للمعاناة، بل ويجعل تلك المعاناة ممتدة في الموطن الجديد للشخصية الرئيسة بعد هجرته إلى الولايات المتحدة، ثمة مسؤولية مزدوجة هنا ينبغي للمشاهد تحملها. الفارق بين الفيلمين، هو أن فيلم "لا أرض أخرى" لا يجد موزعين له في الولايات المتحدة، وعرضه في أوروبا يظل مقتصراً على القاعات المستقلة الصغيرة لبضعة أمسيات لا أكثر، وعلى النقيض يتمتع "الوحشي" بمساندة شبكة توزيع هوليوود الهائلة الممتدة عبر سلاسل قاعات السينما في الولايات المتحدة حول العالم. في تلك القاعات أيضاً، وفي نفس التوقيت يعرض فيلم أميركي آخر بعنوان "5 سبتمبر"، وهو فيلم عن هجوم أولمبياد ميونيخ العام 1972، الواقعة التي تقدم تقديمها على الشاشة في أكثر من عشرة أفلام بالإنكليزية ما بين السينمائي الدرامي والتلفزيوني والوثائقي. في العام 2005، أخرج ستيفن سبيلبرغ فيلم "ميونيخ" وبعد عقدين تعود هوليوود من زواية أخرى وفي فيلم جديد لتذكرنا بأن الرياضيين الإسرائيليين كانوا ضحايا الإرهاب الفلسطيني. يحظي هذا الفيلم كذلك بفرص للعرض في القاعات التجارية على نطاق واسع.
في برلين وعند تكريم فيلم "لا أرض أخرى"، صفقت وزيرة الثقافة الألمانية للمخرج الإسرائيلي وصرحت بأنها لم تصفق للفلسطيني. في الأوسكار، صارت الجائزة أشبه بتكريم خلف الستار لفيلم شبحي لن يشاهده الجمهور العريض. يجد مخرجو الفيلم أنفسهم في موقف مستحيل، يوفال أبراهام مهدداً بالقتل من مواطنيه الإسرائيليين ومتهماً بمعاداة السامية في ألمانيا وشريكه الفلسطيني باسل عدرا مدان بالتطبيع حَسَبَ حركة المقاطعة. لكن الأهم هو أن خاتمة الفيلم نفسها تنفي أن يكون للناشطية الفنية مفعول سياسي فوري، فبالرغم من التوثيق الذي يشارك فيه الرباعي الفلسطيني الإسرائيلي ينتصر المستوطنون ودولة الاحتلال في النهاية. ثمة عَلاقة مخيفة يمكن تبينها أنه ثمة توازي بين نَيْل الفلسطيني اعترافاً في المؤسسات الثقافية الغربية وتسريع المذابح ضد الفلسطينيين على أرض الواقع. وكأن فلسطين الجوائز هي الوجه الآخر لفلسطين المذبحة.