لم يمض وقت طويل على انتهاء أعمال ما سمي الحوار الوطني الذي دعت له السلطة السورية على عجلة غير مبررة، وهو ما حصره ضمن معارف وحدود لجنته، وغابت عنه كثير من الشخصيات الوطنية الفاعلة في مجتمعاتها، لأسباب لا تزال مجهولة حتى بعد صدور نتائجه غير النافذة، لتسارع فلول النظام وداعمين لهم، لتبنّي طريقة حوار من نوع آخر مع السلطة الجديدة، "حوار الدم" الذي يهدف لاستنزاف ما تبقى من قدرة سوريا على النهوض من جديد، ويهدد بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وكأنهم ينفذون الشعار الذي رفعوه بوجه الشعب السوري منذ بداية ثورة 2011 "الأسد أو نحرق البلد" مضرمين النار بكل من حولهم من بشر وحجر، بما في ذلك حاضنتهم الشعبية في الساحل السوري، مستدرجين غضب الشارع السوري لإشعال نار الفتنة بين الأهالي، قبل أن تعلن عصيانها على الدولة السورية، وتغرق سوريا بفوضى حروب العصابات وجرائمها.التصدي المحق من قبل الأمن العام لمحاولات فلول النظام تقويض السلم الأهلي، وانتزاع مناطق من سيطرة حكومة الرئيس أحمد الشرع، وما رافق السلطة من مساندة شعبية كبيرة لها لم تأت من فراغ، بل هي حاصل جمع 14 عاماً من تنكيل النظام السوري بمعارضيه، وتضييق الخناق على كل السوريين في سبل عيشهم، وسرقة مواردهم. ما جعل الإنجاز الذي حققته عملية ردع العدوان وتحرير سوريا من نظام الأسد فرحة كبيرة لا يريد أحد التفريط بها، حتى على حساب دمهم وفتحهم معارك جديدة ضد مناصري الأسد وأزلامه.
هذه الفزعة العشوائية أسهمت في تسريع الحسم لمصلحة الأمن العام في بعض المواقع المحتدمة، لكنها في ذات الوقت، أدخلت عملية التصدي لفلول النظام والخارجين على القانون في متاهة الفوضى، وأفسحت المجال لعمليات تصفية عشوائية لتتم خارج إطار القانون في بعض المناطق، وبطرق تخالف القوانين الإنسانية، وجرائم قتل لمدنيين أو لمعتقلين عزل، وفقاً للفيديوهات التي تم نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن من فعل ذلك، بدل أن يساند يريد التحريض، سواء عن قصد أو من غير قصد، على موقع وجهود الدولة السورية، التي استطاعت خلال الأشهر الثلاثة أن تطمئن بخطابها الدول العربية وكثير من العالم الغربي، ما أدى إلى محاولات جادة لرفع العقوبات المفروضة على سوريا من الولايات المتحدة الأميركية، ورفع استثنائي لمدة عام من الاتحاد الأوروبي.كان يمكن للحوار الوطني الذي جرى في 25 شباط/ فبراير الماضي أن يكون أكثر فاعلية، لو هيأت له لجنة تحضيرية على معرفة حقيقية بشرائح الشعب السوري وتضحياتهم، وكيفية توسيع قاعدته الشعبية، ليمثل حقيقة الثورة السورية التي كانت ملكاً لكل السوريين، بما فيهم معارضين علويين ودروز ومن كل القوميات والمذاهب الدينية من دون استثناء، وتعرف من خلاله (أي المؤتمر) بعض حاملي السلاح الذين أرادوا أن يساندوا الأمن العام في معركته، أن في الساحل السوري أيضاً معارضين للنظام الأسدي، تعرضوا للاعتقال والتعذيب والتهجير، وهم يستحقون الحماية التي هي من واجب الدولة. وقد أكد على ذلك الرئيس أحمد الشرع في خطابه مساء يوم الجمعة 7/آذار مارس محدداً واجبات الدولة في حماية السلم الأهلي وحصر السلاح بيد الدولة.
ما حدث من خروقات وانتهاكات وجرائم في تنفيذ المهمات الأمنية، سواء من جهات تابعة للأمن العام، أو ممن ادعوا أنهم يساندونها لتحقيق النصر على المجرمين من أزلام النظام الأسد، لا يمكن اعتباره عن غير قصد، لأنها جرائم مصورة غايتها تعزيز مفهوم الإرهاب عن السلطة الحاكمة. وإذا أرادت السلطة البدء بعمليات محاسبة يجب النظر تحت أقدامها، لأن من ارتكب هذه الفظائع بحق مدنيين في مدن وقرى الساحل السوري بادعاء أنه يحارب فلول النظام، وصورها ونشرها، غايته إما الانتقام بمرجعية طائفية ووحشية، أو أنه يستهدف تقويض مصداقية السلطة، ووقف المساندة الدولية لها بإعداد ملف جنائي حديث الولادة الجرمية.يحسب للرئيس الشرع مسارعته لوضع النقاط على الحروف، والتأكيد من جديد على أولوية السلم الأهلي، وحصر السلاح بيد الدولة، والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت وادانتها، وهذا يعني بالضرورة المحاسبة لكل من تغاضى عن السلاح المنفلت، والذي شاهده العالم بيد الجهات التي أطلقت العنان لغرائزها المتوحشة في الانتقام من المدنيين، سواء كانوا من الخارجين على القانون، أو من فلول النظام العابثين بأمن حواضنهم الشعبية، أم من المدّعين الموالاة للسلطة السورية، فالعدل أساس الملك، والسوريون على اختلاف مرجعياتهم بانتظار تحقيق العدالة لإنهاء هذا الحوار الدامي بينهم. مع التأكيد أن عزل الفلول وحرمانهم من الموارد البشرية لن يكون متاحاً من دون شمل الجميع بالعملية السياسية، لتأكيد حقيقة أن الدولة السورية لهم جميعاً، ما يستوجب أن يدافعوا عنها كما تدافع عنهم.