تصاعدت الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. وخلال الأيام الثلاثة التي أعقبت دخول فصائل المعارضة السورية إلى دمشق، شنت إسرائيل مئات الغارات الجوية والضربات الصاروخية التي استهدفت تدمير القدرات العسكرية التي خلفها جيش النظام السابق. واستغلت إسرائيل انسحاب هذا الجيش من القنيطرة، وعموم مناطق الجنوب السوري، لاحتلال أراضٍ جديدة بحجة أن اتفاق فصل القوات بين إسرائيل وسورية لعام 1974 لم يعد قائماً، لعدم وجود طرف ينفذه على الجانب السوري. وفي حين تتوغل قوات الاحتلال يومياً في الأراضي السورية بحجة البحث عن سلاح منتشر في المنطقة، تحاول حكومة بنيامين نتنياهو فرض منطقة منزوعة السلاح تشمل الجنوب السوري كله، مع محاولات لتفتيت الدولة السورية على أسس طائفية وعرقية وجهوية.
خلفيات السياسة الإسرائيلية في سوريا وأهدافهاكان موقف إسرائيل من الثورة السورية التي انطلقت في آذار/ مارس 2011 سلبياً. وعندما حوّل نظام بشار الأسد الثورة إلى نوع من الحرب الأهلية برد فعله الحربي الذي أجّج مظاهر سلبية عديدة، ومنها الطائفية، اتخذت إسرائيل استراتيجية تقوم على إطالة أمد الحرب أطول مدة ممكنة لإضعاف الدولة السورية والعمل على تجزئتها. وقد حددت إسرائيل خطوطاً حمراء لنظام الأسد، شملت منع استخدام الأراضي السورية لنقل أسلحة متطورة كاسرة للتوازن إلى حزب الله في لبنان، ومنع وجود قوات عسكرية تابعة لإيران أو لحزب الله أو لميليشيات أخرى موالية لهما في جنوب سوريا في المنطقة القريبة من الجولان السوري المحتل، ومنع التموضع العسكري الإيراني، ومنع إنتاج الصواريخ المتطورة في سوريا.ومنذ كانون الثاني/ يناير 2013 وحتى سقوط نظام الأسد، استباحت إسرائيل الأراضي السورية وشنت مئات الغارات على أهداف مختلفة فيها، ومما شجعها على الاستمرار في ذلك امتناع نظام الأسد، وحلفائه، عن الرد على هذه الاعتداءات.وتواصل إسرائيل توغلها في الأراضي السورية، على الرغم من أن سقوط نظام الأسد واستيلاء هيئة تحرير الشام على السلطة أنهى الوجود العسكري الإيراني وأوقف نقل الأسلحة إلى حزب الله، ملغياً تبريرات إسرائيل في مهاجمة الأراضي السورية، وعلى الرغم أيضاً من عدم وجود تهديد عسكري في جنوب سوريا ضد إسرائيل، فضلاً عن الموقف الذي اتخذته الإدارة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، الذي أكد أن سوريا لا تريد المواجهة مع إسرائيل، وأنها لن تكون نقطة انطلاق لمهاجمتها، ولن تسمح أن تستعمل أراضيها لتهريب السلاح إلى لبنان أو إلى دولة أخرى، وأنها تتمسك باتفاقية فصل القوات. وقد طالب الشرع بانسحاب الجيش الإسرائيلي من المنطقة السورية العازلة ومن المناطق التي احتلها بعد سقوط النظام.من الواضح أن سوريا والإقليم كله يواجه مرحلة جديدة من سياسات القوة الإسرائيلية. وترى إسرائيل في الظروف الراهنة فرصة مهمة لتحقيق جملة من الأهداف، أهمها:
إضعاف الدولة السورية من خلال ضرب كل قدراتها العسكرية وتدميرها، ومنع تمكين السلطة الجديدة، أو سيطرتها على أي أسلحة مهمة كان يمتلكها النظام السابق.
احتلال مناطق جديدة في جنوب غرب سوريا.
محاولة تجزئة البلاد على أسس طائفية وعرقية وجهوية.
تقديم إسرائيل نفسها بوصفها دولة إقليمية قوية، تحرص على حماية الأقليات الطائفية والعرقية، من دون أن تطلب منها هذه الأقليات حمايتها.
محاولة فرض منطقة أمنية في جنوب غرب سوريا تحت النفوذ الإسرائيلي، يحظر على الجيش السوري دخولها، وتشمل هذه المنطقة أجزاء من محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء ومنطقة جبل الشيخ وأجزاء من ريف دمشق.
احتلال المنطقة العازلةتابعت إسرائيل باهتمام كبير العملية العسكرية التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. ومع اتضاح مصير نظام الأسد، خاصة بعد تحرير مدينة حماة، وتوجه قوات المعارضة نحو دمشق، عقد الكابينت السياسي-الأمني الإسرائيلي في 7 كانون الأول/ ديسمبر اجتماعاً قرر خلاله احتلال المنطقة السورية المنزوعة السلاح، وهي منطقة أُنشِئَت بموجب اتفاقية فصل القوات لعام 1974، وتبلغ مساحتها 235 كيلومتراً مربعاً، وتمتد بطول يبلغ نحو 75 كيلومتراً من قمة جبل الشيخ في أقصى شمال هضبة الجولان إلى أقصى جنوبها، وبعرض يراوح بين بضع مئات من الأمتار إلى 14 كيلومتراً. وفي 8 كانون الأول/ ديسمبر أعلن نتنياهو في أثناء زيارته للجولان السوري المحتل، بأن اتفاقية فصل القوات قد انهارت، وبأن الجيش السوري أخلى مواقعه العسكرية، وقال: إن إسرائيل "لن تسمح لأي قوة معادية التمركز على حدودنا".لا تتوفر معلومات دقيقة عن مساحة الأراضي التي احتلها الجيش الإسرائيلي خارج المنطقة السورية العازلة، ولا عن المواقع والتحصينات العسكرية التي ينشئها فيها. ففي حين تشير بعض المصادر إلى أنه احتل مساحة 440 كيلومتراً مربعاً بما فيها المنطقة العازلة، تشير مصادر أخرى إلى أنه احتل مساحة 600 كيلومتر مربع. ولا ينشر الجيش الإسرائيلي معلومات عن عدد السكان السوريين الذين تمسكوا ببقائهم في نحو 15 بلدة وقرية في المنطقة العازلة، ولا عن عدد السكان السوريين الذين يخضعون لاحتلال الجيش الإسرائيلي خارجها.تدمير قرات الجيش السوريشن سلاح الجو الإسرائيلي في 8 و9 كانون الأول/ ديسمبر 2024 مئات الغارات على مواقع الجيش السوري، أسفرت عن تدمير الغالبية العظمى لقدراته العسكرية، وشملت أهداف هذه الغارات قواعد الجيش ومطاراته المنتشرة في أنحاء سوريا ومختلف أنواع الطائرات العسكرية بما فيها ميغ 29 وسوخوي والمروحيات والمسيرات وكذلك منظومات الدفاع الجوي التي تشمل الرادارات وبطاريات صواريخ أرض- جو، وأسلحة الجيش الثقيلة كالدبابات والمجنزرات، إلى جانب مخازن الأسلحة والذخيرة ومواقع إنتاج الأسلحة والمختبرات العلمية. كما هاجمت البحرية الإسرائيلية قطع سلاح البحرية السورية ودمرت قسمًا كبيرًا منها.احتلال جديد وطويلتشير تصريحات قادة إسرائيل ونشاطات الجيش الإسرائيلي في الأراضي السورية التي احتلها بعد سقوط نظام الأسد، إلى أن إسرائيل تخطط لوجود طويل فيها. ففي أثناء زيارة نتنياهو، ووزير الأمن، يسرائيل كاتس، صحبة رئيس الأركان السابق، هرتسي هاليفي، في 17 كانون الأول/ ديسمبر، لقمة جبل الشيخ، التي احتلتها إسرائيل قبل ذلك بأيام، صرح كاتس بأن "قمة جبل الشيخ هي عيون دولة إسرائيل التي ترى الأخطار القريبة والبعيدة"، وأن الجيش الإسرائيلي سيقيم تحصينات عسكرية في المناطق التي احتلها حديثًا من أجل البقاء فيها فترة طويلة. وفي 23 شباط/ فبراير 2025، صرح نتنياهو بأن الجيش الإسرائيلي سيبقى في جبل الشيخ وفي المنطقة السورية المنزوعة السلاح لفترة غير محددة، وأنه لن يسمح لقوات النظام الجديد في سورية بالدخول إلى المنطقة الواقعة في جنوبي دمشق، وطالب بأن تبقى محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء منزوعة السلاح.ولا تستند حكومة نتنياهو في اعتداءاتها إلى حالة الضعف التي تعيشها سوريا بعد 14 عاماً من الصراع فحسب، بل تعول أيضاً على دعم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أعرب عن مفاجأته، خلال محادثاته في واشنطن مع نتنياهو، من عدم استغلال إسرائيل للوضع، واحتلال أراضٍ جديدة في الجولان السوري أكثر من تلك التي احتلتها في أعقاب سقوط نظام الأسد.ويبدو أن الجيش الإسرائيلي، بحسب المعلومات المتوفرة، يتجه إلى التمركز على نحو دائم في المنطقة العازلة وفي التلال الواقعة إلى الشرق منها، حيث ينشئ القواعد والتحصينات العسكرية فيها. ويتوغل يومياً، تقريباً، شمال جبل الشيخ وفي أجزاء من ريف دمشق الجنوبي ومناطق في محافظتي القنيطرة ودرعا، بحثاً عما يقول إنها أسلحة، ثم لا يلبث أن ينسحب، خاصة عندما يُواجَه بمقاومة من السكان المحليين.تجدر الإشارة إلى أن الجيش الإسرائيلي احتل عدداً من السدود المائية في محافظة القنيطرة، وأهمها سد المنطرة، الذي يقع داخل المنطقة العازلة وتبلغ سعته نحو 40.2 مليون متر مكعب، وسد الرويحنية الذي يقع عند الحدود الشرقية للمنطقة العازلة وتبلغ سعته نحو مليون متر مكعب، وسد بريقة الذي يقع بمحاذاة المنطقة العازلة وتبلغ سعته 1.1 مليون متر مكعب، وسد كودنا الذي يقع شرق المنطقة العازلة، وتبلغ سعته نحو 31 مليون متر مكعب. إن استمرار سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي على هذه الموارد المائية يشكل خطرًا ليس على المجتمع المحلي في داخل المنطقة العازلة فحسب، وإنما أيضًا على مجمل سكان محافظة القنيطرة ويهدد أمنهم المائي والغذائي.غطاء للتجزئة والتوسعلا تخفي إسرائيل استمرارها في السعي إلى تجزئة سوريا على أسس طائفية وإثنية وجهوية. وقد استغلت الأوضاع الراهنة، وكثفت دعوتها هذه لعرقلة بسط سلطة الدولة السورية على البلاد، وللتغطية على احتلال أراضٍ جديدة، بحيث يصبح موضوع الجولان المحتل في أي مفاوضات مقبلة من الماضي.ومن غرائب الأمور، أن تأتي تصريحات ادعاء حماية الأقليات من حكومة ترتكب جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وما انفكت ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولا تأبه بالقوانين والمواثيق الدولية وخاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان بما في ذلك حقوق الأقليات، وترفض السلام مع جيرانها وتشن الحرب عليهم وتتوسع في أراضيهم.وفي هذا السياق، تبذل إسرائيل جهوداً لدى إدارة الرئيس دونالد ترامب من أجل إبقاء القوات العسكرية الأميركية التي يقدر عددها بنحو 2000 جندي في شمال شرق سوريا. فقد أراد ترامب في فترة رئاسته الأولى سحب هذه القوات، بيد أنه عدل عن القيام بذلك في أعقاب معارضة إسرائيل ودوائر في وزارة الدفاع والكونغرس. تراهن إسرائيل على أن استمرار وجود القوة العسكرية الأميركية في شمال شرق سورية يحمي القوات الكردية ويعرقل بسط الدولة السورية سيطرتها على هذه المنطقة. وفي حال انسحبت القوات الأميركية، فمن المستبعد أن تتمكن إسرائيل من التدخل عسكرياً لحماية القوات الكردية في المنطقة التي تسيطر عليها. ويبدو أن التصريحات الإسرائيلية بشأن الكرد هدفها الضغط على إدارة ترامب بعدم سحب القوات الأميركية من ناحية، ولتعزيز مطالب قوات سورية الديمقراطية الكردية وعرقلة اندماجهم في الدولة السورية من ناحية أخرى.خاتمةاستغلت إسرائيل سقوط نظام الأسد لتحقيق مجموعة من الأهداف، وفي مقدمتها احتلال أراضٍ جديدة، بهدف خلق منطقة نفوذ في جنوب غرب سوريا، وعرقلة بسط سيطرة النظام الجديد على الأراضي السورية كافة. وفي هذا السياق، تستمر إسرائيل في تعزيز سيطرتها والتوغل بين الفينة والأخرى في محافظتي القنيطرة ودرعا وريف دمشق الجنوبي، وتستمر كذلك في شن الغارات الجوية على أهداف مختلفة في سورية من أجل إضعاف النظام الجديد والمسّ بهيبته.إن قدرة سوريا على مواجهة هذا التحدي تتم بتوحيد السوريين في إطار الدولة السورية من خلال المشاركة السياسية الممثلة لجميع أطياف المجتمع، وكذلك تشكيل تحالفات إقليمية ودولية لمواجهة التوحش الإسرائيلي.