2025- 03 - 09   |   بحث في الموقع  
logo شهيد وجريحان في اعتداءات العدو على كفركلا logo قدامى لاعبي الشراع يكرّمون الكابتن وسام دائزلي.. logo دراسة أميركية جديدة تبحث العلاقة بين اللقاحات والتوحد logo نتنياهو يطلب استقالة رئيس الشاباك وسط خلافات متزايدة logo الشرع: أي نداء يدعو لتقسيم سوريا لا مكان له بيننا logo إسرائيل: سوريا يجب أن تكون تابعة لنا..وسنصل إلى العراق logo ماسك لوزير خارجية بولندا: اهدأ أيها الرجل الصغير! logo إطلاق نار في العاقبية إثر إشكال بين الأهالي وسوريين (فيديو)
السوريون الأعداء.. من تأليه بشار إلى ثقافة العواء
2025-03-09 15:25:50


في سن السادسة، تلاحقك تماثيل حافظ الأسد وصوره أينما ذهبت ــ شرقاً، غرباً، شمالاً، وجنوباً. تنتشر في الساحات، على الجدران، وحتى على دفترك المدرسي، لتصبح جزءاً من رؤيتك البصرية، بل ومن ذاكرتك ذاتها. تتساءل بعفوية: من هذا الرجل ولماذا كل هذا التقديس؟
يأتيك الجواب سريعاً: "إنه الأب القائد الخالد الذي لا يموت". لكن في زوايا الحديث، تتردد همسات خافتة عن التعذيب والاعتقالات، تحذّر من الأسئلة، وتُلقنك أوّل درس في الخوف: "الحيطان إلها آذان". بعفوية الطفولة، تستغرب كيف يمكن للجدران أن تسمع، لكنك تدرك لاحقاً أن هذه العبارة ليست إلا مفتاحاً لصمت طويل.
تحت التراب
تسمع همساً عن مجزرة حماة في الثمانينات، حيث أُبيدت عائلات بأكملها، ثلاثة أجيال تحت التراب، لكن يُطلب منك ألا تذكر ذلك حتى لأقرب أصدقائك. هكذا تنمو في بيئة مشبعة بالخوف، تغذّيها الرقابة والرقابة الذاتية، ليُزرع في داخلك خياران لا ثالث لهما: إما أن تدفن رأسك في الرمال، أو أن ينتهي بك الأمر في سجن صيدنايا.
تكبر في طفولة تائهة، محاطاً بمآزق لا تنتهي. ترتدي البدلة العسكرية منذ الصغر، تردد يومياً "أمّة عربية واحدة" و"حماة الديار"، بينما يُغرس فيك الخضوع بلا وعي، ليصبح الانبطاح عقيدة.
تُدفع إلى معسكر "الصاعقة"، حيث تتشكل ملامحك تحت أنظار نظام يرفع شعار العلمانية، لكنه يستثمر في الطائفة، يعزّز الولاءات، ويخنق أي تمرد. فحتى أبناء طائفته لم يسلموا من بطشه، وإن تجرأ أحدهم على المعارضة، انتعشت السجون، ازدهرت أجهزة القمع، وازداد عدد زوار أقبية المخابرات.
هناك فقط، يصبح للحيطان آذان، في إنجاز استثنائي يُضاف إلى سجل "القائد الخالد". حين يموت الأسد الأب، تصطدم بواقع لم يخطر لك يوماً: كيف يموت من قيل لنا إنه خالد؟ تتجلى الصدمة الأولى، ويُساق الجميع إلى مسيرات الحزن، حيث لا مفر حتى لو اختبأت في الخزانة. كل سوريا، بعلوييها وسنّييها ومسيحييها، مطالبة بإعلان الحداد.. فالبلاد توقفت، وكأنها فقدت إلهاً.
السلطة لا تموت
لكن السلطة لا تموت، بل تُعيد تدوير نفسها. يخضع الدستور لغسل دماغ سريع، يُعدَّل لمصلحة "الوطن"، ليُفتح الطريق أمام الوريث. يظهر الأسد الابن، متقمصاً خطاباً علمانياً، ومظهراً حضارياً لم يألفه الناس في حكم والده. ينزل إلى الشوارع التي لم تطأها قدما أبيه يوماً، يتجول في المطاعم بين الناس، ويُصبح التعامل معه أشبه بصدمة ثانية: كيف نتخطى عقيدة التأليه، ونتعامل معه كإنسان من لحم ودم؟
لكن الانتقال لم يكن عشوائياً، فالوريث أحاط نفسه بالسنة قبل العلويين، مستثمراً في مخاوف الطائفة العلوية التي عانت من مجازر تاريخية، كما استمال المثقفين الذين كرسوا فلسفة السلطة، والتجّار الذين أدركوا أن الولاء هو مفتاح الاستمرارية. كل ذلك في ترتيب مدروس، استعداداً لما كان يعرفه جيداً: الانتفاضة قادمة لا محالة.
تنتفض البلاد بعد سنوات طويلة من القمع. يتجرأ البعض على التمثال الذي ارعبنا جميعاً لمجرد النظر إليه ليكون بالفعل هذا "الشبل من ذاك الاسد"، ويبدأ نهر الدم يسيل في الشوارع السورية وسجونها، وتنتشر مقاطع وحشية في مناطق الثورة، يُطلب بها من الثوار أن ينطقوا بأن بشار هو ربهم الأعلى، يفعلون ذلك ويُقتلون بعدها بدم بارد، ويجلس القتلة على جثثهم يُدخّنون السجائر، ويتفاخرون وتسمع أصوات البراميل المتفجرة لكنك تصم أذنيك ... لتعيش البلاد في دوامة الحرب الطاحنة 12 سنة وتطمس الثورة والجرائم التي ارتكبت بحقها، ثمّ نمضي كسوريين اعداء في طريقنا والطائفية تنهشنا من الداخل حتى لو تبادلنا القبل والسلام ويصفنا الرئيس "بالجراثيم".
خادم لا حاكم
يسقط الأسد فجأة، ويُعلن أحمد الشرع رئيساً في دمشق التي تستقبل العهد الجديد بترحيب واسع. الشوارع تضج بالحشود، الساحات تمتلئ بأول نفس حر بعد عقود من القمع، والهتاف هذه المرة ليس لمن يدّعي الألوهية، بل لمن وعد أن يكون خادماً لا حاكماً.
لكن ما هي إلا أسابيع حتى تذبل فرحة التحرر، لتبدأ مرارة العيش. بلدٌ منهك، لا رواتب، لا كهرباء، مشهدٌ مألوف للسوريين. غير أن تمرّد الساحل، حيث بدأت "فلول النظام" – كما أسماهم الرئيس الجديد – تقلب المعادلة، يدفع بالأحداث إلى منحى مظلم.
تعود المجازر بالوحشية ذاتها، بدم بارد لا يفرّق بين من ثار على النظام البائد ومن لم يفعل. تُسفَك الدماء، وتُدنّس أجساد القتلى بإذلال ممنهج. يُجبر الضحايا على العواء قبل إعدامهم، وتُفرش موائد رمضان على جثثهم.. مشهد كابوسي يعيد إلى الأذهان فظائع النظام الساقط، لكن بوجوه جديدة.
حين تطول الحرب، يصبح الخطر الأكبر ليس هزيمة العدو، بل أن تتحول إلى نسخته الأخرى.
نعم، نحن السوريون الأعداء الذين تحدث عنهم الروائي العظيم فواز حداد في روايته، نُباد منذ الأزل، لا بالسلاح فقط، بل بالإقصاء والتهميش، إبادة مادية، بيولوجية، ثقافية، واقتصادية تمتد عبر الأجيال.
نحن الذين لم نحب بعضنا يوماً، لم نعرف كيف نصنع وطناً يحتوينا جميعاً، نقاتل بعضنا أكثر مما نقاتل الطغاة، ونغرق في أحقادنا قبل أن نغرق في دمائنا.
كُتبت هذه المادة بينما لا يزال الساحل السوري مسرحاً لمجازر مروعة مستمرة منذ ثلاثة أيام، حيث قُتل الأبرياء وعناصر من الدفاع، وأُغرقت المنطقة في الظلام بعد قطع الكهرباء والماء، وصودرت الهواتف، ليبقى الموت وحده شاهداً على مجزرة تُرتكب بصمت، بعيدًا عن أعين العالم.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top