تنتشر ظاهرة التسول بكثافة في مختلف المناطق اللبنانية وخصوصا العاصمة بيروت وضواحيها، فمن يتجول في شوارع العاصمة وغيرها من المناطق اللبنانية يلحظ أعداد المتسولين الذين يزداد عددهم في شهر رمضان، إذ يستغل هؤلاء الصدقة والزكاة، فنجدهم بصورة مبالغ فيها أمام المساجد وعلى مفارق الطرقات وإشارات المرور وأمام دور العبادة وفي وسائل المواصلات العامة وأمام المستشفيات أو البنوك والأسواق والمحال التجارية والمطاعم والمقاهي يمارسون التسول كمهنة يعتبرونها الطريق الاسهل لجمع المال بطرق تكون في بعض الأحيان مقنعة، كمسح زجاج السيارات أو بيع الورود أو أي سلع أخرى بأسعار بخسة.
الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد منذ عام 2019 وانهيار العملة الوطنية انعكست على مفاصل الحياة في لبنان، كما انعكست بشكل خطر على الفقراء والمهمشين والمشردين والمتسولين في الشوارع الذين يمدون يدهم طالبين كسرات الخبز وبقايا الطعام وفتات المال من المحسنين، فالتسول يشكل ظاهرة اجتماعية خطرة قد تؤدي إلى انحراف أكثر من 70 في المئة من أطفال الشارع وقيامهم بأعمالٍ إجرامية وقد بينت الإحصائيات أن اكثر من 3000 طفل يعيشون في الشوارع، علما أن العدد الحقيقي قد يكون أكبر بـ3 مرات وأن 73 % من بين هؤلاء الأطفال سوريون وفلسطينيون.
من المعروف أن ظاهرة التسول تشهد ازدهارا في أوقات الحروب والأزمات وهذا ما يبرر تفاقمها في لبنان حاليا وانتشارها بشكل واضح لعدة عوامل ابرزها كثرة النازحين السوريين ودخول الاف منهم بطرق غير شرعية خصوصا من فئة الاولاد، إضافة إلى الفقر والعوز والبطالة والفراغ القاتل والظروف الاقتصادية الصعبة وعدم التعلم أو التمرد أو سوء المعاملة في المنزل أو في المدرسة، وضعف الملاحقة القانونية، ويضاف إلى ذلك عدم ممارسة المؤسسات المختصة الحكومية وغير الحكومية لدورها، وانتشار مافيات الشوارع التي تستغل المتسولين.
الجدير بالذكر أن الإحصاءات تشير إلى أن نسبة المتسولين السوريين من أصل اللاجئين مرتفعة، نتيجة للظروف القاسية التي يعيشونها والفقر الذي يعانون منه.
دكتورة علم الاجتماع في جامعة بيروت العربية ضحى الأشقر رأت “أن على الرغم من تبعات الأزمة الاقتصادية على مفاصل الدولة والأمن، يبقى التدخل الأمني بأهمية عمل وزارة الشؤون الاجتماعية ومتابعتها لهذا الملف، فكلاهما يكملان بعضهما بعضا في العمل على الحد من هذه الظاهرة، لأن أسباب التسول وجماعاته متنوعة وليست كلها ناتجة من الفقر” ، مشيرة إلى وجود اشخاص يستغلون المعوِزين فيشغلونهم كمتسولين ثم يعيدونهم إلى بيوتهم بعد جمع المبلغ المطلوب يومياً وقد يكون الأشخاص هم الأهل أنفسهم بحسب الأشقر.
مصدر أمني أشار إلى أن “التسول أزمة اجتماعية موجودة من قبل وتفاقمت مع النزوح السوري والانهيار الاقتصادي، فالمتسول هو شخص دفعته الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة أو حتى البيئة التي تربى فيها والأشخاص المحيطون به الى التسول” مضيقاً “تم توقيف الكثيرين من جنسيات متعددة ” سوريين وفلسطينيين ولبنانيين” لأكثر من مرة من دون فائدة لأن غالبيتهم من الأطفال. نحن بحاجة الى مراكز ايواء وتأهيل تهتم بهؤلاء الأطفال وتمنحهم حقوقهم وفي طليعتها حق التعلم وتخرجهم من هذا المستنقع”.
وأضاف: “قمنا بالتحقيق مع الكثير من هؤلاء للحصول على معلومات بخصوص رؤوس الشبكات المنظمة للعديد منهم من دون الوصول الى حل لأن هذا جزء من المشكلة”.
يشار إلى أن وزير العمل في العام 1999 وضع “خطة اطفال الشوارع”، لمكافحة هذه الآفة، إلا أنها لم تؤد إلى نتائج ملموسة، ثم تبنت وزارة الداخلية مشروع منظمة العمل الدولية لمكافحة عمالة الاطفال ورعايتهم وتأهيلهم تربويا ومهنيا وضمان عدم عودتهم إلى الشوارع International Program for the Elimination of Child Labour) I.P.E.C )، والذي يشمل حماية الأطفال الذين يعملون في أماكن خطرة على صحتهم، أو أولئك الذين يتسولون في الشوارع، وتأهيلهم عبر برامج خاصة تضمن لهم مستقبلا جيدا، آمنا وبعيدا عن كل الاخطار إلا أنه وعلى الرغم من كل ذلك، بقيت أعداد المتسولين تتزايد.
ان تفشي ظاهرة التسول يطرح تحديات كبيرة لأنها تمهد الطريق لآفات اجتماعية بالبلاد في غنى عنها كالسرقة والانحراف الإجتماعي والأخلاقي والاعتداءات الجنسية وتعاطي المخدرات، وقد تعرض المرأة للانحراف السلوكي وتعوّد الرجل البطالة والكسل مما يؤثر سلبا في إنتاجية المجتمع الاقتصادية، كما أنها تؤثر في نمو الأطفال البدني والذهني والنفسي وتحرمهم ممارسة حياتهم بشكل طبيعي وتحرمهم أبسط حقوقهم، فالمشرع اللبناني اعتبر أن التسول جريمة وعقوبتها منصوص عليها في المادة 610 وما يليها من قانون العقوبات فمن كانت له موارد، أو كان يستطيع الحصول على موارد بالعمل، واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان كان، إما صراحة أو تحت ستار أعمال تجارية، عوقب بالحبس مع التشغيل لمدة شهر على الأقل وستة أشهر على الأكثر ويمكن، فضلا عن ذلك، أن يوضع في دار للتشغيل ويعتمد هذا التدبير وجوبا في حالة التكرار.
وتشمل العقوبات أيضًا أهل القاصر فيعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وبالغرامة من 20 ألفًا إلى مئة ألف ليرة، والدا القاصر الذي لم يتم الخامسة عشرة من عمره أو أهله المكلفون إعالته وتربيته إذا لم يوفّروا له حاجاته الأساسية على الرغم من اقتدارهم وتركوه متشردا كذلك يعاقب القانون من دفع القاصر الى التسول بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة تتراوح بين الحد الأدنى للأجور وضعفه، أما الأجانب فيحكم عليهم بالمواد المذكورة ويمكن أن يقضي الحكم بطردهم من لبنان.
كذلك ينظر القانون اللبناني إلى التسول على أنّه من جرائم الاتّجار بالأشخاص وهو يضعه في إطار استغلال حالة ضعف لدى هؤلاء، ويشدد العقوبات الخاصة به وتتراوح هذه العقوبة بين الحبس لمدة حدها الأدنى خمس سنوات وقد تصل إلى 15 سنة في حدها الأقصى. أما الغرامة فتتراوح بين 100 و600 ضعف الحد الأدنى للأجور، وذلك وفق ظروف ارتكاب الجريمة وما ينتج منها من أذى، ووفق صفة الشخص المرتكب ودرجة قرابته من المتضرر.
لا شك في أن ظاهرة التسول، ظاهرة سلبية تؤشر على وجود عدد من المشاكل الاجتماعية والأخلاقية في مجتمعاتنا، والتي سببت وجود مثل هذه الظاهرة، لكن حينما يجتمع الجشع والتسول فتلك معضلة اجتماعية، فقبل سنوات تم العثور على المتسولة فاطمة عثمان متوفاة بداخل سيارة في محلة البسطة ليتبين أنها تملك حساباً بقيمة مليون دولار في أهم المصارف اللبنانية.
يشار إلى أن مجلس النواب قرر عام 1950 التشدد مع المتسولين وأصدر قانوناً بمصادرة أموالهم فمن كان يحكم عليه بجريمة التسول المنصوص عليها في المادة 610 وما يليها من قانون العقوبات وتضبط معه أو في مسكنه أو لدى شخص مؤتمن من قبله مالا او حلى او أوراق مالية أو شهادات ملكية او اسناد دين، تصادر هذه الأشياء لحساب الدولة بحكم من محكمة الجزاء ذات الصلاحية وتستوفى قيمة اسناد الدين من موقّعيها وتنقل الاملاك الى اسم الدولة، مما يعني أن من يدعي الفقر ويمارس التسول رغم أنه من غير المحتاجين تتم مصادرة أملاكه.
والسؤال هل الحل يكمن فقط في تجريم فعل التسول، ام بخطة متكاملة عبر التعاون بين الأجهزة الرسمية والمنظمات غير الحكومية محلية ودولية لتنفيذ برامج تستهدف الوقاية والعلاج لهذه الظاهرة جذرياً من خلال ودعم الأسر الفقيرة، وتوفير فرص العمل للشباب، وإيجاد مأوى للعجزة والمحتاجين، ووضع برنامج متطور للتوعية ولعدم التعاون أو التعاطف مع أي متسول، على أن يترافق ذلك مع فرض قوانين صارمة لمكافحة التسول، بالإضافة إلى متابعة ومحاسبة الأفراد الذين يستغلون الأطفال في أعمال التسول، وتبني الدولة برامج لإعادة تأهيل الأطفال الذين يعيشون في الشوارع، مثل مراكز الإيواء التي تقدم لهم الرعاية الصحية، النفسية، والتعليمية.
إن التصدي لهذه الظاهرة يحتاج إلى إرادة سياسية قوية، فهل نجد الحل عند حكومة “الإصلاح والإنقاذ” برئاسة القاضي نواف سلام وتضع حدا لهذه الآفة، مع أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الحكومة لا تملك عصا سحرية قادرة على حل كل المشاكل بين ليلة وضحاها.