"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة" (محمود درويش)
ذات يوم، كتب اللاهوتيّ الفرنسيّ الأرثوذكسيّ أوليفييه كليمان (1921-2009) ما معناه أنّ الناس يخطئون إذا حسبوا أنّ ثمّة مشكلةً وجوديّةً أخرى غير الموت. طبعاً، ما كان يحيل عليه كليمان ليس الموت من حيث حقيقته الوضعيّة، أي ما يشار إليه تقليديّاً على أنّه انفصال "النفس" عن الجسد، أو بكلمات أخرى تلاشي طاقة الحياة في الجسم لسبب ما، بل الموت بوصفه الحقيقة الكبرى التي تطبع بطابعها كلّ وجه من وجوه حياتنا، بحيث يصبح الموت ضرباً من نغمة أساسيّة تشكّل أوجه الحياة الأخرى مجرّد تقاسيم عليها.يخيّم الموت على يوميّاتنا. يأتي إلينا من أخبار الحروب التي لم تنتهِ بعد، من حكايات الأصدقاء الذين يرحلون واحداً تلو آخر حاملين معهم أشياء أنّى لنا أن نستردّها. يتّشح الموت بثوب ما سمّاه الشاعر الفذّ نزار قبّاني "الحزن الساكن فينا ليل نهار"، هذا الذي يذكّرنا بأنّ الموت ليس مجرّد نهاية، بل وتر أخرس يواكبنا في تفاصيل التفاصيل. لكن ربّما يكون المكان الأكثف لحضور الموت في يوميّاتنا أنّ سلطان الموت قادر على تحويل تجربتنا الإنسانيّة إلى تجربة عبث. هذا ما رمى إليه اللاهوتيّ أوليفييه كليمان حين كتب عن الموت بوصفه المعضلة الكبرى. نحن، هنا، أمام ما يشبه المعادلة الرياضيّة. فما دام كلّ شيء ينتهي بالموت، لا أسهل من أن ينزلق الإنسان انزلاقاً "منطقيّاً" إلى مكان أجوف يحسب فيه أنّ كلّ شيء تافه، وأنّ لا شيء يستحقّ الحياة. آنذاك تندحر الدلالات وتفقد الأشياء معانيها. هذا ما عبّر عنه كتاب الجامعة حين كتب صاحبه: "الكلّ باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس".يخطئ من يعتقد أنّ ثمّة جواباً شافياً عن سؤال الموت. فمعضلة الزوال التي عبّر عنها كتاب الجامعة، من حيث إنّها كثيراً ما تفضي إلى تقهقر تجربة المعنى، لا يمكن تفاديها. بيد أنّ الأديان تستحثّ البشر لا على كبت السؤال، بل على طرحه بشكل مختلف. يتّفق الإسلام والمسيحيّة على فكرة أنّ الأشياء جميعها مخلوقة من العدم بإرادة إلهيّة، ما يجعل تلاشيها واندثارها أمراً حتميّاً، لأنّ البقاء لله وحده. لكن عند هذه النقطة بالذات، تضع كلّ من الديانتين نبرةً مختلفة. فعند المسلمين أنّ الموت أمر ينبغي تقبّله والتعامل معه "إيجابيّاً" عبر التسليم لمشيئة الخالق، لكونه جزءاً لا يتجزّأ من تكوين الطبيعة الإنسانيّة. المسيحيّة لا تنكر هذا بالطبع. لكنّها تشدّد على طاقة الحياة المنبعثة من قبر المسيح الفارغ، الذي غلب الموت بقيامته. حين طرح أوليفييه كليمان السؤال عن الموت بوصفه أكثف معضلة وجوديّة على الإطلاق، كان يومئ طبعاً إلى الإيمان بالقيامة. لكن يبقى السؤال: كيف يمكن ترجمة هذا كلّه في حياتنا اليوميّة؟ربّما يكمن بعض الجواب عن هذا السؤال الشاقّ في سعينا الدؤوب إلى بلوغ مكان ما تكون فيه الكلمة الفصل لا لمنطق الموت، بل لمنطق الحياة. العارفون يزعمون أنّ هذا ممكن بالحبّ لكون "المحبّة قويّة كالموت"، كما نقرأ في نشيد الأناشيد بحسب نصّه العبريّ الأصليّ. لا شكّ في أنّ هذه المحبّة تفصح عن ذاتها في العلاقات الإنسانيّة بالدرجة الأولى: في حميميّة اللقيا، والعمل على اجتثاث العنف، والقدرة على الغفران، والتكافل الاجتماعيّ، والسعي إلى مجتمعات أكثر عدالةً واحتراماً للضعفاء. لكنّها تمتلك أيضاً تعبيرات أخرى في الفنّ، في الشعر والأدب على وجه العموم، في طلب الجمال أنّى كان وحيثما حلّ. يُنسب إلى فيودور دوستويفسكي قوله إنّ "الجمال سينقذ العالم". لم يتبسّط الروائيّ الروسيّ في شرح مقولته هذه. لعلّه كان يومئ إلى جمال يعين البشر على استعادة اختبار المعنى حيال الموت الذي يتربّص بهم. إذا كان هذا التأويل لا يجانب الصواب، فإنّ التعامل "الخلّاق" مع معضلة الموت لا يكون عبر البحث عن حياة ما بعد الموت، بل عبر استشفاف تجربة المعنى في اختباراتنا الإنسانيّة ذاتها، وذلك بكلّ ما تختزنه هذه الاختبارات من حبّ وحقّ وجمال.