نحن شعوب هذا الشرق الحزين لا نميل إلى العطاء مرغمين؛ وإذا ما اُجبرنا، نتعايش مع الظروف ونستمر كالجمر تحت الرماد. خصوصاً عندما نشعر بالمظلومية، وأن ما يُقدم لنا لا يساوي ما نعطيه ونضحي ونكابد من أجله. نحن لا نؤمن بأشباه الدول والأنظمة والمؤسسات، ولا بعدالة النظام العالمي وما يقدمه من "بوفيه" أفكار ونظريات، ليس لأننا من مؤيدي الفوضى، بل لأننا نعيش منذ أن وُلدنا، مسكونين بوعي من القهر والنقصان والاحساس بالدونية على كافة الأصعدة، مقارنة بما يُسمى العالم المتحضّر. نعيش ونعتاد على نقص حاد في كل شيء، حتى يشعر الواحد منا كأنه في غابة أو في دار أيتام مشرف على الإفلاس. كإنسان، كمواطن، عليك أن تضحي وكرامتك مهانة، وحريتك غير مصانة. ومطرقة العدالة تُصدر أصواتاً في المحاكم كأنها قنابل صوتية لا مفعول لها.
نتحول بسهولة إلى مخلوقات اجتماعية سلبية، إلى غرباء في تعاملنا مع كيانات وأنظمة وقوى عظمى نعتاد التعايش فيها ومعها. نعي، لكن نُفهم على أننا لا نعي!
"أضحك"، قال لي طبيب الأسنان المتمرّن في مستوصف الجامعة اليسوعية في بيروت (لهم كل الشكر على مساعدتهم لكل الناس من أصحاب الدخل المحدود)، كي يلتقط لي صورة قبل العلاج.
"صعبة"، قلت له.
"حاول"، أصر والكاميرا الحديثة جاهزة بين يديه.
"لا أستطيع تصنّع الضحك"، أصررت.
لم أتمكن من الإبتسام وإظهار أسناني الا عندما تدخلت طبيبة مساعدة خفيفة الظل، ومازحتني!
شعرت أن أمري قد أنفضح. فعلاً أنا غارق في الحزن، عدا عن عدم مقدرتي على الضحك أو التبسم بصورة مفتعلة.
كانت سنة 2024 الأعنف في فلسطين ولبنان وسوريا. شهدت هذه السنة السوداء سلسلة من الحروب القاسية والأحداث الدراماتيكية، فشعرنا كأننا وسط فيلم خيال علمي من العنف المتفلت استخدمت فيه آخر الاختراعات التكنولوجية والعلمية (صور الأقمار الاصطناعية، الدرونات، أجهزة البيجرز التي فُجرت عن بعد، عدا عن عالم الإنترنت العميق). سالت دماء كثيرة وزُهقت أرواح بريئة حتى ضاعت وأحتارت الاحصاءات الرسمية في عد الضحايا. فبقيت الأرقام والاحصاءات موضع شك وتساؤل.
في كتابي الشعري الثاني الصادر عن دار نلسن سنة 2006 بعنوان "أميركا أحبك، أنا لا أحبك"، قصائد ولمعات شعرية منها:
"... ماذا فعلنا؟ لطخنا حيطان الدار بدمي ودمك! بالله عليك، ماذا فعلنا؟... أنسيت كيف ذبحنا أطفالنا كالدجاج على أرصفة الطرقات... وكم غاب ناس وهم حاضرون في دموع الأمهات والآباء... أنسيت كيف أختلط دمي بدمك..."
وفي أحدى القصائد عن فلسطين، ورد:
"كان كابوساً مرعباً، فقد رأى أطفال الضفة يفترشون الرصيف مقاعد دراسية... وأمهات غزة يمشين في الجنازات وبطونهن أمامهن، خدودهن حمراء وردية، ودموع النساء المتشحات بالأسود تتحول رصاصاً محلياً.. والاولاد يرشقون جنود العدو بحجارة منازلهم..."(في أشارة الى زيارة أرييل شارون الاستفزازية إلى القدس المحتلة).نحن سكان منطقة الشر... الأوسط" نولد ونكبر ونعي موجات وهبّات من العنف والحروب كأنها جزء من قدرنا وحيواتنا المرسومة مسبقاً. كأننا نعيش في غابة من البراكين التي يمكن أن تنفجر وترمي بحممها في كل الإتجاهات. ونحن لسنا إستثناءً في هذا العالم، لكن تكرار وتكثف الحروب والصراعات يجعل من بلادنا بقعة سوداء وعميقة على الخريطة الأرضية. العالم لا يختلف عنا كثيراً. فالعنف والحروب متجذران في وعي وسلوك المجتمعات البشرية منذ أن تناحرت القبائل في العصر الحجري على أول مصدر للطاقة: وهو النار. لطالما تبنيت التفكير التاريخي السطحي القائل بأن البشرية خاضت الحرب العالمية الأولى والثانية، وأن مسرح الحروب العالمية قد أغلق. أشك، ككثرغيري، بذلك اليوم.
منذ تفتح وعيي الفكري والسياسي وأنا أقرأ عن الحروب في عناوين الصحف المحلية والأجنبية، وأتابع أخبارها على الشاشة الصغيرة. تابعت الحروب اللبنانية من "بوسطة" عين الرمانة الى قالب حلوى "الطائف". هذا القالب الذي كلف اللبنانيين مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعوقين والمفقودين. رأيت وعشت وحشية "شعب الله المحتار" يضرب ويحرق ويقتل بدم بارد في الجنوب وصولاً إلى بيروت سنة 1982. عشت حروباً وجولات كثيرة: حروب الأخوة في المنطقة الشرقية، وحروب الأخوة الأعداء في بيروت الغربية. وتابعت حروب الأخوة – الأخوة في الجنوب والضاحية قبل دخول الجيران السوريين. وشهدت بفرح حرب تحرير الجنوب، ثم حرب 2006، ثم مسرحية "7 أيار" الدموية، وصولاً إلى الحرب الأخيرة التي فاقت كل التصورات. أعرف من تجاربي أن للحروب أثمان من دم ونفوس زكية والكثير من الأبرياء ودمار هائل.أعترف أن حرب غزة وما سمي بـ "حرب الإسناد" في الجنوب اللبناني وما نتج وينتج عنهما قد أدخلني في حال من الصدمة والإرتباك واللاتوازن الفكري. ووجدت نفسي غير قادر على الحكم على سير الأحداث والتطوارت. كنت في قلب الحدث، كنت خائفاً على نفسي وعلى عائلتي، وعلى البلد والناس التي وصل بها الأمر الى اللجوء وإفتراش رصيف سباق الخيل وشارع الحمراء وكورنيش المنارة. من ميزة اللبنانيين أنهم يتقبلون بعضهم وقت الشدة أكثر من وقت الرخاء. وفي الأمر إيجابية تُسجل لهم. لكنني اليوم أجد نفسي في ضيق من كل نقاش في السياسة والاوضاع والتنظير السياسي. يستفذني إدمان الناس على النقاش والمشارعة في الأوضاع... ونحن في حال من الضياع واللاتوازن على المستوى الوطني.
نحن تفصيل صغير جداً في لعبة الأمم مهما تمرجلنا وتعنترنا أمام الكاميرات!
إن كل ما تابعناه خلال حرب غزة والجنوب اللبناني والبقاع والضاحية، وما تبعه لاحقاً من خلع قفل "صندوق باندورا" السوري (التسمية أتت جد موفقة)، جعلت من خلجات الفرح والضحك ولو للترفيه والصمود أمر يستدعي الكثير من الندم والإحساس بالذنب. كل هذا العنف والوحشية في التعذيب في سجون لا يدخلها ضوء الشمس ولا تراها عيون، كل هذا الظلم والقهر والعهر السياسي المخفي بخبث لئيم تحت رخام القصور وفي ظل الأماكن المقدسة!
لماذا... حقاً، لماذا! ألا يعلم الحاكم – أي حاكم - أن الظلم عمره قصير مهما طال، وأن الشعب هو ضمان استمرار الحاكم العادل وعزّته وعزة الوطن وكرامته.
"الله يسترنا من هالضحكات"، عبارة يتداولها الناس عندنا عندما يصابون بنوبات ضحك تستدعي الدموع. دموعنا فقط نحن أهل هذا الشرق يختلط فيها الحزن بالفرح!كيف أبتسم، بل كيف نبتسم؟ بعد أن شاهدنا جرافات وآليات العدو الاسرائيلي تسحق جثث الأبرياء في غزة، وكيف تُرمى الجثث من على السطوح، وكيف تنهش الكلاب الجائعة لحم البشر! هل نحن على كوكب الأرض؟ أم نحن في عالم موحش متوحش غابت عنه شمس الرحمة والانسانية! ومن منا ينسى الصحافي، وائل الدحدوح، الذي خسر معظم أفراد أسرته وبقي صامداً ينقل لنا ملحمة غزة وشعبها. وكيف لنا أن ننسى كيف قصفت المستشفيات وخيم النازحين والمنازل بقنابل تزن أطنان؟ وكيف ننسى أطفالاً وشيوخ ونساء أبرياء لفظوا أنفاسهم الأخيرة في ظلمة وتحت أطنان من الأسمنت والحجر وأصوات المنقذين يصل صداها من بعيد؟ وتكرر المشهد في الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية والبقاع. أطنان من الحديد أنزلت بلحظات بنايات شاهقة، وفي كثير من ألأحيان، هوت على رؤوس قاطنيها من المدنيين. قتل وجرح الكثير من الأبرياء تحت مبرر اغتيال شخصية مستهدفة. ساد منطق حق القوة على منطق قوة الحق.
صار العالم مظلماً وظالماً. أدار لنا ظهره وتلهى بالحداثة والذكاء الاصطناعي والانتخابات الاميركية ومباريات كرة القدم والسهر وأقداح الشامبانيا والسيجار الكوبي، وأسعار البورصة، والليالي الصاخبة وعروض الأزياء والنجوم... وآخر اختراعات الصواريخ العابرت للقارة، حتى أعتقدنا أن الكرة الأرضية تحولت إلى مصنع للمفرقعات يديره أناش أشرار. كل ذلك على جثث شهداء وشهيدات غزة والجنوب كأنهم غير محسوبين على الجنس البشري. يولد الفلسطيني على هذه الأرض ليكون مشروع شهادة؛ كأنه ممنوع عليه التفكير بالغد وبمستقبل واعد.
فما كان علينا نحن سكان هذا "الشر... الأوسط" الا أن نرمي في البحر للمرة الأخيرة خرافات الحرية والديمقراطية والانسانية المستوردة.
يحتاج الناس عندنا لفترات طويلة من الراحة والتأمل ومراجعة الحسابات، وتحّسس الأجساد والأنفس، ليس فقط لإعادة بناء ما تهدّم من حجر وبشر وبلسمة جراح ودفن شهداء وشهيدات، بل لإعادة بناء ذاتنا الانسانية... لنتمكن من الضحك من دون شعور بالذنب!