أما وأنه صار يمكن الكلام على الأسدية باستخدام أفعال الماضي، فلِمَ لا نحاول أن نقول ماذا كانت، ما هي الملامح الأبرز لهذا الشيء الذي عشنا في ظله، ولا بد أنه عاش فينا كذلك، 54 عاماً؟ ويتجاوز الأمر نقل الممكن إلى حيز التحقيق لأول مرة في أعمار أكثرنا، إلى محاولة صوغ معايير لما لا يجب أن تقوم عليه الحياة السياسية في سورية ما بعد أسدية.أول خاصية بنيوية للأسدية هي الأبد، التطلع إلى حكم يدوم ولا ينتهي، وهو ما يقربها من الدعوات الألفية لجماعات سياسية أو دينية متنوعة، تطلعت إلى عهد من النصر والسيادة لا يموت، "عصر ألفي سعيد". كان من آخر من تطلع إلى حكم ألفي النازيون في ألمانيا قبل أقل من قرن، حيث كان يفترض بالرايخ الثالث أن يعيش ألف عام (عاش 12 عاماً، وسقط بحرب عالمية).
الألفية الأسدية بدأت تعبّر عن نفسها علانية بعد مذبحة حماه في شباط 1982، وهذا زمن الاعتقالات والسجون والخوف، وهو كذلك زمن تماثيل حافظ الأسد تُنصب في كل مكان لتعبر عن ثبات العهد وصلابته. الأبد غير ممكن من دون فائض من العنف يبلغ حد الإبادة، وهو ما أظهر الحكم الأسدي استعداداً مُجرّباً له مرتين، في عهد الأب وكلف عشرات ألوف الضحايا، ثم عهد الابن وبلغت الكلفة مئات الألوف. تديين الحكم، أو إضفاء القداسة عليه، يأتي من هذا التطلع الشاذ إلى امتلاك ما يفترض أن تكون خاصية إلهية حصرية (الدائم، الأبدي). حين لا يكون دينياً أصلاً، الأبد ينتج دينه الخاص، وعبادة الأبد كانت الدين الأسدي حتى 80 يوماً خلت. وبطبيعة الحال يسير الأبد مع الحرب الدائمة ضد التغيير والمستقبل كما ضد الماضي، ومع العيش في حاضر مؤبد لا تتمايز لحظاته. في الأبد الأسدي، لا وجود مهماً لسورية قبل 1970، ولا يمكن تصور سورية غير أسدية أو ما بعد أسدية. الخاصية الثانية تحيل إلى الصفة الأهلية للنظام مقابل الصفة الجمهورية، أو ما يحيل إلى الجينوس (العرق، السلالة، العشيرة إلخ) وليس الديموس (الشعب). وهذا التكوين "الجينوقراطي" لا يتعارض جوهرياً مع الديمقراطية فقط، وإنما هو يؤسس لـ"الجينوسايد"، القتل الجماعي على الهوية، أو ما يترجم إلى العربية بعبارة "الإبادة الجماعية". وبينما قد يمكن المجادلة في وصف ما عرفنا في سورية بعد الثورة بأنه جينوسايد، فلا جدال في أن له بعداً إبادياً، وأنه شهد العديد من المجازر الجينوسايدية، ارتكبها النظام أساساً، لكنها ترسخت في المجتمع السوري، وترجمت نفسها في مجازر لها الصفة نفسها ضد علويين.
ويجري الكلام هنا على حكم جينوقراطي بدلا من التعبير الشائع أكثر: حكم طائفي، لأن الطائفية شكل من أشكال هذا النموذج الذي يربط بين الحكم العام وبين هويات خاصة متشكلة تاريخية، سواءً كانت أقلية أو أكثرية. الحكم الجينوقراطي هو حكم جماعة معرفة بهويتها، سواء كانت دينية أو إثنية أو قومية أو عرقية (بحسب الرباعية التي أوردتها اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة جريمة الجينوسايد لعام 1948). وحتى حين تكون هذه الجماعة أكثرية أو منسوبة إلى أكثرية أهلية، فإننا لسنا حيال ديمقراطية، بالنظر إلى أن هذه تقوم على أكثرية أفقية ومتغيرة، وليست عمودية ثابتة وموروثة من الماضي. وهو ما يسوغ منذ الآن القول إن التحول من صيغة للحكم الجينوقراطي إلى صيغة أخرى لا يوافق الديمقراطية ولا يقطع طريق الإبادة. هناك ديناميات آخرى فاعلة اليوم في الأوضاع السورية، ومنها ما يتصل بالحريات العامة والنقاش العام المفتوح، هي ما يعول على ترسخها لاجتناب هذه المخاطر. وتتمثل الخاصية الثالثة في مستوى متقدم من الإفقار السياسي للمجتمع السوري طوال عقود، حرمان متطرف من الاجتماع والتعاون والتنظيم المستقل من جهة، ومن الرأي والكلام في الشؤون العامة من جهة ثانية. وهذا كان شرط السوريين العام وليس بعضهم، فالحكم الأسدي كان نازعاً للسياسة من الجميع، بما في ذلك من الموالين له. الكل رعايا تابعون وليسوا مواطنين مستقلين. لقد كان نظاماً مضاداً للمبادرة المستقلة لأي قطاع من محكوميه. ولم تعرف سورية في ظله أي مساحات حرة للقاء والنقاش، يمكن أن تشكل نموذجاً ريادياً يحتذى. مصير "ربيع دمشق" الذي عاش شهوراً، وتمثل أساساً بالمنتديات التي كانت مساحات للقاء والكلام يشارك فيها ما بين عشرات ومئات قليلة، تنعقد في مساكن خاصة، أقول مصير ربيع دمشق تمثيلي في هذا الشأن. لقد اعتقل أبرز المنخرطين في هذه الحركة وأغلقت المنتديات باستثناء واحد منها وضع تحت الرقابة قبل أن يغلق بدوره في ربيع 2005. وحين انتقل طلب السياسة، الاجتماع والكلام، إلى فضاءات عامة وإلى قطاعات شعبية بدءاً من ربيع 2011، ووجه بحرب مفتوحة.
وهذا الإفقار السياسي الجائر هو من الشروط البنيوية للعب الدين دور حد للفقر السياسي، لأن الحكم الأسدي ذاته ما كان قادراً على فض "اجتماع" المؤمنين في المساجد، أو إخراس "الرأي" المتمثل في نصوص قرآنية وتعبدية. بل يبدو أن النظام عوّل على إنتاج إسلامه السياسي الخاص، الداجن والموالي، وقد كان ناجحاً بذلك طوال عقود. أما الخاصية الأساسية الرابعة للحكم الأسدي فتحيل إلى مزيج من العنف والرثاثة والكراهية، ومعها الخسة والرخص والجشع و"دناوة النفس" والافتقار إلى السماحة. طوال عقود من الحكم لم تعرف مبادرة سماحة واحدة من النظام حيال محكوميه، ولعله كان مقتنعاً بأن هذا شعب "ما يجي غير بالبوط" أو "بالدعس"، على ما كان يتكرر في بيئة أجهزته الأمنية. لقد كنا حيال تركيبة سياسية طغموية، قصفت محكوميها بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة وصواريخ سكود، وأدارت صناعة تعذيب قاتلة أودت بعشرات الألوف، وتوافق حكمها مع نشر كراهيات حادة، كان أبطالها الأسديون أنفسهم وقادة مخابراتهم. وطوال أكثر من نصف قرن ترسخ نظام الأسدين كحكم يدوي يقوم على التعذيب والقتل، وضعفت مكونته العقلية التي قد تحيل إلى قدر من الهيمنة، أو الاقتناع العام به. وبالمقابل عمّ الفساد وانتشرت السينيكية (الاستهتار وعدم الإيمان بشيء والتشكك في أي قيم عامة). وبهذا التكوين الخسيس تعزز الفقر السياسي الشامل بفقر مادي متنام، شمل أكثرية ساحقة من السوريين وقت سقوط النظام.
وعلى هذه الخلفية تحوز فكرة ثورة الكرامة في تصور الثورة السورية وجاهتها الكاملة، كتأكيد لحس السوريين بالكرامة في مواجهة أوضاع منحطة. لم تكن الكرامة مطلباً للثورة السورية، كانت الثورة بالأحرى مطلباً للكرامة، تعبيراً عنها.الأسدية هي المجموع المتحصل للحكم الأبدي، التقسيمي أهلياً، المفقر سياسياً، الرخيص والعنيف. ومن الطبيعي والعادل أن يعاش التخلص منها كتحرير، كخلاص وفرج. لكن هذه الخصائص العامة للأسدية ممكنة التصور من دون متصرِّف أسدي من صنف بشار الأسد وأبيه. وهنا البعد النقدي الذي ينفتح عليه تعريف الأسدية، أي ما يتجاوز التخلص من الحكم الأسدي إلى طي صفحة حكم الأبد، المتمركز أهلياً، المفقر سياسياً، والعنيف الرخيص. ذلك أن الأسدية التي تحققت بأسديين طوال أكثر من نصف تاريخ البلد المعاصر، هي بنية سياسية اجتماعية قابلة للتحقق من دون أسديين. وهو ما يوجب ألا تكون ما بعد الأسدية صفة عارضة وإسمية لأوضاعنا الراهنة، بل أن تكون صفة قوية وإيجابية تحيل إلى تطوير ديناميكيات تغير ذاتية متجددة، وبالتالي تداول السلطة، إلى السياسة الجمهورية التي تعمل بآليات الانتخاب والتعليم والقانون وتوزيع الموارد على اختراع شعب سوري تتغلب كثافة تفاعلات جماعاته فيما بينها على التفاعلات الداخلية لكل منها، إلى الحريات السياسية، وخصوصاً التنظيم والكلام والاحتجاج، وإلى مراقبة من هم في السلطة ووضعهم تحت النقد، وبخاصة فيما يتعلق بالثروات والصلاحيات.
الحكم الأسدي صار من الماضي، والأسدية ينبغي أن تلحق به.