- "قول "بونجور"- بونجور- عندك قنبز للعصفور؟هي لعبة طفولية مازحة من سلسلة مزحات تلعب على الكلمات ووزنها، لا أعرف أحدًا من جيل طفولتي لم يُسأل أو يَسأل هذا السؤال، ممازحاً. ولا أعرف أحدًا لا يعرف ما هو القنبز. ولمن لا يعرف، فالقنبز هو طعام العصافير، و"قنبز" أيضًا دار نشر لبنانية (تأسست العام 2006) وتسعى بطرقٍ ملفتةٍ للحواس كلها أن تصل إلى الأطفال.إصدارات دار قنبز تُشعر البالغين بالغيرة، خصوصاً إذا كان هذا البالغ لم يحظ في طفولته بفرصة الحصول على هذه الكتب أو كتبٍ شبيهة بها. سيشعر أن طفولته كانت ناقصة، فيحاول تعويض نقص تلك الطفولة بالحصول على الكتب لأطفاله أو أطفال أصدقائه.أساليب ذكية تتضمن الكثير من ألعاب الطفولة ومن الذاكرة الجماعية المشتركة، بعضها ذاكرة الجيل السابق في محاولة لإعادة إحيائها. الألعاب تشكل ميزة من ميزات كتب الدار والكلمات واللغة أساسها. وكُتُب دار قنبز تذكر بالمختبر. أنت لا تقرأ فقط الكتاب بل تختبره. في البدء ستلفت نظرك ألوان الأغلفة، ثم حجم الكتاب، ثم ستجد أن الكتاب يسمح لك بل هو مصمم كي تكون شريكًا، لا مجرد قارئ. ستشارك من خلال اللعب أو التلوين أو التركيب، أو اللعب والتلوين والتركيب معًا.شغف باللغة العربية وبالطفولة وبالتعلم، إنما بطريقة غير مقحمة. فيأتي التعلم سلسًا. على الرغم من أن نادين توما، مؤسِّسة الدار، تقول إن كتبها ليست تعليمية ولا تهدف من خلالها إلى تعليم اللغة العربية، بل لإيصالها بطريقة خاصة غير الطرق السائدة. غير أني أجد صعوبة في حذف التعلم من المعادلة. أن تعرف من خلال حكايات في سلسلة من خمسة كتب (تأليف نجلا جريصاتي خوري، رسوم سارة السخن) تتضمن معجماً مرسوماً، متى تستخدم الأحرف متقاربة التي يسهل خلطها في مرحلة ما، متل "ض" و "د"، "ك" و"ق"، فهذا تعلّم، لكنه تعلّم مرح. ربما ما كان بعض الكبار ليُخطئوا في لفظ هذه الحروف لو كانوا تعلموها صغاراً بشكلٍ مُسلٍّ. في كتب دار قنبز، دعوة لاكتشاف اللغة العربية، فيصبح الكتاب في حد ذاته، أداة لتقصير المسافة بين القارئ وبين اللغة، ولكسر الخوف من صعوبتها المفترضة سلفاً. وسيضمن للقارئ، بعد لفت نظره، اكتشاف متع صغيرة وشيقة. تشعر، عند النظر والتصفح، أن هذه الكتب لا تستخف بالأطفال ولا بقدراتهم ولا حتى بمزاجهم، وأن هناك جهدًا كبيرًا مبذولًا كي يكون هذا المنتج عند حسن ظن وفطنة ولهفة الطفل المتلقي. لهذا، فإن الغيرة التي قد تنتاب غيري، كما انتابتي، ستتحول غيرة من نوع آخر، غيرة من احتمال ألا تكون هذه الكتب في متناول الأطفال جميعاً أينما كانوا. ففي ظل غياب المكتبات العامة، حيث يفترض أن تنتشر وتتوافر الكتب كلها، كيف تصل هذه الإنتاجات لكل الأطفال؟ العصافير تأكل القنبز، والأطفال يقرأون الكتب. والأطفال، كالعصافير، في كل مكان، فلا بدّ أيضاً من وجود كتب وقنبز في كل مكان.مفهومٌ أنه على الأهل والمدرسة تقع مسؤولية مشتركة للبحث عما يطور حواس الأطفال وإمكاناتهم وخيالهم ومتعتهم. لكن هناك مسؤولية أخرى اتجاه الأهل أنفسهم، تتمثل في إتاحة وتوفير خيارات متنوعة أمامهم، تعريفهم عليها. الكتاب يجب أن يكون في متناول الأهل – كل الأهل – أينما ومن أي طبقة اجتماعية كانوا. وهذا ما يستدعي اهتمامًا من جهات أخرى، كوزارة الثقافة ووزارة التربية، لتعزيز دور المكتبات العامةولضمان وصول هذا النوع من الكتب لكل عائلة. اهتمام دار قنبز باللغة العربية غير محصور في الكتب التربوية، ولا بالأطفال. فدار النشر تتحول لتصير "أهل الدار"، وهو مكان يضم انتاجات فنية وثقافية وتراثية متنوعة، منها مثلًا مشروع "مكتبة العلبة" الذي ولدت بذرته خلال فترة النزوح الأخيرة، وتطور بعد الحرب ليُمسي 100 علبة خشبية (من صُنع حرفيين طرابلسيين فيما تصميم اللوغو لناجي المير). وتحتوي كل علبة على كتب لمختلف الأعمار، ويمكن اعتبارها مكتبة عامة متنقلة، أو أن كل صندوق منها فرع لهذه المكتبة المتنقلة. وهي متوافرة لكل من يرغب، في قريته أو بلدته، شرط حضور ورشة تدريب على القراءة، لأن أسلوب قراءة القصة جزء من القصة، والأسلوب جزء من مشروع الدار.يقع "أهل الدار" في منطقة فرن الشباك، ويفتح أيام السبت والأحد، من الثانية عشرة ظهرًا ولغاية الساعة السابعة مساءً. يستقبل الزوار بمجموعة واسعة من المُونة اللبنانية، ثم تجد نفسك في عالم حكايات. لكل عمل في المكان حكاية، وستجد بطريقة أو بأخرى علاقة بين تلك الحكاية وبين حكاية عمل آخر. وأهم ما يجمع هذه الحكايات هو عنصر التحريض. التحريض على السؤال، على المشاركة، على البحث، وفي أحيان كثيرة يكون هذا البحث في الذاكرة حيث كانت الطفولة وتلاشت.تبحث نادين توما، فتجد عن القمح الذي تنتجه منطقتنا (وهو الأقدمك من 12 ألف سنة)، أقدم جملة عن لسان العرب "نجّم ثم فرّخ ثم قصب ثم أعصف ثم أسبل ثم سنبل ثم أحبّ ثم ألبّ ثم أسفى ثم أفرك ثم أحصد"ـ فيُولد عمل فني فيه الخط والشعر والتراث والزرع. أو تبتكر خانةً لأصوات الأبجدية تتألف من حرفين مكررين (لَعْلَعْ – ذَبْذَبْ)، فتتحول بصوت نادين، وأبجدية لارا أسود، مشروعاً لا يكتمل إلا بمشاركة المتلقي المدعو لاكتشاف أصوات إضافية. وعلاقة النص مع الصورة هي مفردات الحكايات التي تُروى لدى "أهل الدار" وفي كتبه، مع مجموعة من الفنانين والموسيقيين والحرفيين.وأضافت نادين توما، مع شريكتها في "أهل الدار" سيفين عريس، ضلعاً إضافياً للمكان، إذ حوّلتا حديقة فرن الشباك من مكان مهمل إلى مكان يخدم الأهداف الأصلية للحدائق، كالتلاقي وبناء الروابط، فصارت بعد التنظيف والتجهيز "جنينة أهل الدار"، وتقع على بعد 25 خطوة من مقر "أهل الدار"، وفيها بالإضافة إلى ألعاب الأطفال أقدم شجرة من سلالة الصنوبر وهي "أوركاريا". هكذا، صار لأهل الدار جنينته.مع كل مشروع وكل كتاب، يقترب "أهل الدار" خطوة إضافية من تحوّله مكاناً لتلاقي. يتلاقى الخط مع اللون، النبات مع القماش، الحرف مع الصوت، الفصحى مع العامية، التعلم مع اللعب، والحديقة مع الكتاب.