2025- 03 - 06   |   بحث في الموقع  
logo سلام استقبل وفداً من الموارنة في قبرص والتقى نائب رئيس جمعيّة المقاصد logo السويداء: مظاهرة مناهضة للإدارة السورية الجديدة..ما علاقة المجلس العسكري؟ logo إسرائيل تكثّف توغلاتها في ريف القنيطرة.. مساعٍ لتطبيع ناعم logo لقاء عمل بين توتال وإدارة كهرباء زحلة logo إسرائيل تتحضر لاستئناف القتال في غزة مع تصاعد الأزمة logo طعن في قرار وزير سابق... تحذير ودعوة لاتخاذ إجراءات صارمة! logo سلاح قوي سيردع إسرائيل وأميركا... هل تعتمده الدول العربية؟ logo "أزمة خانقة تهدد اللبنانيين"... والعين على قروض الإسكان!
وسط بيروت "الملعون"
2025-03-06 13:55:53

قبل أسبوع قررت الحكومة اللبنانية فتح الطرق المؤدية إلى ساحة النجمة، في وسط بيروت، إيذاناً بـ"تحرير" قلب العاصمة من السجن الأمني- السياسي الذي امتد لسنوات. وترافق ذلك مع دعوات لإعادة إحياء سائر أنحاء هذا الوسط، وبالأخص منها "أسواق بيروت".والذاهب إلى هناك، كأنه "سافر" إلى مدينة أخرى، غريبة ومحبِطة. يترك واحدنا الازدحام الخانق والضوضاء والفوضى وعنف الحركة واكتظاظ المارة وعشوائية العمران، أو يترك نواحي سكنية أليفة ورائقة وحيوية ومعيوشة.. ويدخل إلى ما يسمى "سوليدير" أو "الداون تاون"، فيغمره هدوء مقلق، فراغ وصمت وشوارع خالية. مكان ملعون بالأبهة والهجران.
واللعنة هذه رافقت "الوسط" منذ أن انفجر لبنان عام 1975، حين افترق اللبنانيون وما عاد ممكناً اجتماعهم وتلاقيهم في المكان الفعلي والرمزي للحياة المشتركة. وهو المكان الذي ظل 15 عاماً قفراً ومدمراً كمشهد من أفلام ما بعد القيامة، شجر برّي وأعشاب ونباتات معربشة وقوارض وصدأ وإسمنت مهشم، وبقايا حرائق ومتاريس وشظايا.
واستمرت اللعنة حين أتى الإعمار والسلم الهشّ، مع سؤال أي حياة مشتركة ستكون؟ وعلى أي وجه ستكون العاصمة؟ وما هي أدوارها ووظائفها؟ وأي بشر سيقطنونها، ومن هم الذين سينجذبون إليها ويمنحونها صورتها وإيقاعها ونكهتها وثقافتها؟هكذا، ما بين 1990 و1997، كانت "ماكيت" إعمار الوسط التاريخي لبيروت تخضع في رسمها للصراع الأيديولوجي، وضمناً النزاعات الطائفية غير المنطفئة، ولتشوه النظام السياسي وضعف الدولة الوليدة المحاصرة بالوصاية السورية وسلاح الحروب، والفواتير المؤجلة لانهيارات اقتصاد زمن الحرب، والكلفة الهائلة لإعادة الإعمار.. كل هذا كان يصارع ويساجل ويصطدم بمشروع رفيق الحريري المندفع بتفاؤل رأسمالية نيوليبرالية لا تخلو من التهور ومن قلة الدراية (أو الاكتراث) لعنف التحولات الاجتماعية، من ناحية، ولهوية المكان ورواسبه التاريخية والسياسية والثقافية، من ناحية أخرى. كان المشروع، ببساطة، يجمع الإيمان بفعالية البيزنس وبتصور فلكلوري سياحي للبنان وبيروت.
في سنوات قليلة، كان إنجاز تحفة معمارية كاملة، حوّلت الوسط إلى واحة شديدة الفخامة، مدينة سياحية بامتياز، يقصدها الغرباء والمواطنون وتستقر فيها بعض أغنى الشركات والمصارف والمؤسسات وبعض الأثرياءاللبنانيين والعرب. لكن، بعد أن فقد سكانها الأصليون وملّاك عقاراتها والمستأجرون القدامى وحرفيوها وتجارها أمكنتهم ودكاكينهم ومنازلهم ومكاتبهم، بفعل قانون استملاك الوسط من قبل شركة وحيدة، سوليدير.
بمعنى آخر، خرج قلب بيروت من جسم العاصمة، وتحوّل إلى جزيرة منعزلة. كان الجمال غير كافٍ، وأشبه بفستان عرس في مأتم.بالتزامن مع سيرة إحياء الوسط طوال عقد التسعينات وحتى منتصف العشرية الأولى، كان هناك نموذج عمراني اجتماعي سياسي وأيديولوجي "يزدهر"، مفعم بالقوة، متماسك ومتأهب. إنه نموذج الضاحية الجنوبية، بكل كثافته وطاقته وقدرته على تحديد وجهة العاصمة ونمط تعبيراتها ونسيجها الاجتماعي والاقتصادي. وهو بكل وجوهه مضاد لنموذج "سوليدير".
التنافر بين النموذجين هو بالضبط الترجمة المادية للانقسام العميق بين الجماعات اللبنانية الذي يمنع صوغ أي هوية للبلد وعاصمته.اغتيال رفيق الحريري طوى 15 عاماً من السلم المثقوب والإعمار غير المكتمل والتفاؤل الساذج. فأقفل وسط بيروت، واشتعلت فيه "حرب" ساحتي 14 و8 آذار، لنحو سنتين، إلى أن كانت الغلبة لقوة الشكيمة المسلحة الآتية من الضاحية الجنوبية، لتحتل قلب العاصمة وتقفله إلى حد الموت إلى أواخر العام 2008.
لأكثر من عشر سنوات، باءت محاولات إحياء الوسط بالفشل رغم بعض الطفرات والمبادرات أو المغامرات السياحية والتجارية التي جازفت واستثمرت ثم خسرت..كان واضحاً، مع هذا المصير البائس للعاصمة، أن النظام السياسي-الاقتصادي يقف على حافة الهاوية، فيما يبدو أن "الوحدة الوطنية" أكثر استعصاء من أي وقت مضى، ولا يوجد أي فضاء جامع أو حيز مشترك. أما لبنان السياحي وبيروت الأعمال و"الخدمات" فباتا مجرد فكرة مثيرة للهزء أو للتحسر.
مجدداً انفجر لبنان في تشرين 2019، بعد انهيار مالي كارثي سببه الأول انحطاط الطبقة المالية- السياسية إلى أسوأ مدارك الفجور والفساد. وتحول وسط بيروت أيضاً إلى ساحة للمواجهة والتخريب والاحتلال. صادرت السلطة وميليشياتها جزءاً معتبراً من مساحة الوسط وحولته إلى قلعة وثكنة. فيما حاول جمهور عامية 17 تشرين، الانتقام من أهل الفجور بتحطيم أو اقتحام أو إقفال الأسواق والمتاجر والمؤسسات والمصارف والفنادق التي كلها مخصوصة لفاحشي الثراء، الذين صاروا بنظر اللبنانيين "نهّابين" وفاسدين ومجرمين. حاول هذا الجمهور استعادة قلب المدينة ليس فقط من قبضة السلطة، لكن أيضاً لتحريره من غربته التي فرضتها سوليدير نفسها. ولهذا، كان عنف المواجهات هناك يعبّر بعمق عن أزمة الكيان اللبناني.
واكتملت لعنة الوسط بانفجار مرفأ بيروت، الذي فاقم الحطام والموات، إضافة إلى الهجران المبتدئ مع تفشي وباء كورونا.بعد ست سنوات من الإفقار والترويع والفراغ المتعمّد، وعزلة البلد التامة وصولاً إلى الحرب الأخيرة التي دخلها لبنان مرغماً بعنجهية السلاح وأيديولوجيته الانتحارية، المحتقرة أصلاً للكيان ولرغبات طوائفه ومواطنيه.. لم يبق الكثير لا من مقومات الدولة ولا الاقتصاد ولا المال ولا من الرأسمال البشري، عدا عن الفوات الزمني الذي وضع البلاد في تأخر عن العالم يصعب تعويضه.
قبل يومين، "سافرت" من بيروت إلى منطقة "سوليدير". أكوام ذرق الطيور على امتداد شارع المعرض، كأفضل مثال على الغيبوبة المديدة. محلات مهجورة وبعضها محطم، مبان خالية، جمال مهشّم يفاقم من حدة الحزن المبثوث في الأنحاء. ندرة بشر وسكون، وبعض موظفي مجلس النواب على مبعدة، كأنهم برهان إضافي على غرابة المكان. أسمع أصداء خطواتي، وأسترجع زمناً مكتظاً بالسياح بلا أي حنين، عندما كان شارعاً يقصده الأثرياء الجدد بهدف التشاوف والاستعراض ونفخ النراجيل، والزوار العرب الذين يرون فيه شبهة أوروبية وإلفة عربية في أن معاً، فيما أهل بيروت يرونه مفارقاً لهم طبقياً بل وأجنبياً إلى حد بعيد، فلا يستدخلونه في يومياتهم وفي جغرافيا حركتهم وأعمالهم ومصالحهم."أسواق بيروت" وشارع فوش والمتفرعات الأخرى. حركة خجولة جداً، ومتاجر أزالت الغبار عن واجهاتها واستأنفت عملها. لكن، لمن هذه الماركات الأشهر والأغلى في العالم؟ لمن هذه البضاعة الاستهلاكية التي لا تناسب إلا خمسة بالمئة من السكان، خصوصاً بعد الإفقار العميق والواسع النطاق؟ لمن هذه الفخامة الشديدة، حيث يتثاءب الموظفون في المتاجر "الذهبية" و"الماسية" لعشر ساعات على الأقل بلا زبون واحد؟ لمن كل هذه البنايات الهامدة بكل روعتها الهندسية؟
وهذه الأسواق تحديداً، التي يمكن أن نجد كل علاماتها التجارية وبضائعها النفيسة في أي سوق حرة بأي مطار خليجي، أو بأي مول (متوسط الحجم بالمعايير الخليجية)، ما جدواها التجارية، وما هي عوامل الجذب والمنفعة بوجودها؟ أهذا قلب العاصمة الذي يُراد له حياة نابضة وملهمة؟ أهذا مكان يحمل هوية البلد وسكانه وتعبيراتهم المدينية والثقافية؟ أهذا فضاء للتلاقي والتفاعل وخلق مساحة مشتركة للتجربة الاجتماعية، عدا عن الأدوار الاقتصادية المفترضة؟فُتح هذا الوسط بعد قرار الحكومة الجديدة بإزالة البلوكات الإسمنتية والحديدية والحواجز والأسلاك الشائكة، ودعوتها المستثمرين والتجار للعودة إليه. لكن لا أحد هناك، ولو على سبيل الفضول. بعض المغامرين القلائل بدأوا بورشة تنظيف وإصلاح أو تجديد محالهم، تماشياً مع التفاؤل الحذر بـ"العهد الجديد". مغامرون، مدمنون كالعادة على فكرة الانبعاث المتجدد للبنان.
في الليل، عدت إليه مجدداً. مدينة أشباح مظلمة. وهناك في شارع أوروغواي، أكشاك رمضانية مضاءة، ككرنفال مفتعل. ظلال المباني المعتمة، وخواء الساحة الشاسعة والطيف الأسود لنصب الشهداء، والأصداء البعيدة للمدينة الفوضوية، الآتية من جسر الرينغ حيث لا تزال في الذاكرة هتافات الرعاع المهددة بالويل والثبور وبالحرب الأهلية. وقفت متأملاً شبح الإهراءات المهدومة.. وكان عليّ أن أهرب متوجساً من هذا الخواء العظيم، من هذا المكان "الملعون" منذ 1975، منذ شباط 2005، منذ أيلول 2006، منذ تشرين 2019.. منذ أن كان شعار إعماره "بيروت مدينة للمستقبل"، فخانها المستقبل وطعنها الماضي.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top