يصف روبيرت. ل. تايلور في كتابه "القيادة العسكرية: السعي نحو التميّز" القيادة العسكرية المتينة بأنها عنصر جوهري في نجاح العمليات العسكرية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للدول، خاصة في ظل التحديات الجيوسياسية المتزايدة وتبدل موازين القوى العالمية وانفتاح الجيوش على معارك عابرة للحدود وانتشار الفرق العسكرية في عدة أقاليم خارج حدود الدول. يستشهد تايلور في كتابه بقدرات قيادات الجيش الأميركي على إدارة العمليات العسكرية خارج البلاد، وفق مبادئ العقيدة العسكرية ومنها أن القائد بصفته صاحب الظهور هو مسؤول كل المسؤولية عن نجاح الوحدة تحت إمرته أو فشلها في أداه مهامها داخلياً وخارجياً؛ وبالتالي فإن الكاريزما التي يتمتع بها القائد العسكري تتشاطر النجاح أو الفشل مع القدرة العسكرية والقدرة على المناورة والمعرفة بدهاليز المعارك والتخطيط العسكري. نأخذ مثال الجيش الأميركي بعدّه المصنّف أول عالمياً بحسب "غلوبال فاير باور"، بما يعكس مؤشرات أداء القوات الأميركية خارج حدود البلاد وقدرتهم على التكيف وإحراز أهداف الإدارة العسكرية الأميركية.عموماً، فإن مناقشة المؤسسة العسكرية تبدأ بالإشارة إلى أن المؤسسة العسكرية بعيدة عن المجتمع المتجانس الذي غالباً ما يتم تصويره في قوالب نمطية، على اعتبار أن المؤسسة العسكرية تتألف في الواقع من مجموعة متنوعة من المنظمات والأدوار والطوائف. على سبيل المثال، تضم المؤسسة العسكرية الأميركية ثلاث مهن: المشاة، والبحرية، والجوية؛ ولكل مهنة ثقافتها الخاصة، وبالتالي جوانبها الفريدة من القيادة التي يشرف عليها مجموعة ضباط مدرّبون بشكل جيد وملتزمون. وبالإضافة إلى ذلك، قد يشير مصطلح "المؤسسة العسكرية" إلى الأشخاص الذين يرتدون الزي العسكري طوال الوقت (القوات العاملة)، أو جزءاً من الوقت (الاحتياط والحرس الوطني)، أو لا يرتدونه على الإطلاق (موظفو الدفاع والأسر العسكرية).في روسيا، المصنف جيشها الثاني عالمياً بحسب ذات المؤشر، أدت مشاركة الجيش في حروب خارج حدود روسيا، ولا سيما في سوريا بدءًا من عام 2015 حتى عام 2024، وأوكرانيا بدءًا من عام 2022، إلى تسريع تطور القيادة العسكرية، حيث أصبح من الضروري للقادة تعزيز مهاراتهم في توجيه الجنود، وتعزيز الانضباط، ورفع الروح المعنوية للقوات المسلحة لضمان الكفاءة القتالية. تلعب مبادئ القيادة العسكرية الروسية دوراً أساسياً في تحقيق التماسك داخل الوحدات العسكرية والتنسيق بين مختلف القطاعات لا سيما سلاح الجو وسلاح المشاة، حيث تشمل مسؤوليات القائد تحديد الأهداف، وتوجيه الأوامر بوضوح، وتعزيز الثقة بين الجنود، والاستجابة السريعة للمتغيرات في ساحة المعركة. علاوة على ذلك، فإن أهم ما يمكن تدريب القوات الروسية عليه هو إدارة المهام المتعلقة بتقديم الدعم النفسي للجنود وتعزيز قدرتهم على تحمل الضغوط النفسية الناتجة عن بيئة القتال، مما يستدعي استراتيجيات فعالة لإدارة الأفراد وتحفيزهم. شهدت القيادة العسكرية الروسية تطوراً ملحوظاً بعد دخولها في الحرب في سوريا، على أقل تقدير، حيث انتقلت من الأساليب السلطوية التقليدية إلى نهج أكثر تفاعلية يركز على التعاون والتواصل بين القائد وأفراد الجيش، بما يعزز انتقالهم من رتبة على أعلى، و تلقيهم تدريبات تجعلهم أقرب إلى الترقيات الروسية وفق قاعدة عامَين عمل عسكري في سوريا يساويان ترقية إلى رتبة أعلى؛ على أن يكون الالتزام بالمهارات العسكرية هو السمة الغالبة على عمل العسكريين التابعين لقاعدة حميميم ونقاط الشرطة العسكرية في تدمر و ريف دمشق و درعا.ننطلق من هذا النقاش إلى مقاربة قادة جيش النظام السوري ( حتى سقوطه في كانون الأول/ديسمبر 2024)، وهل ينطبق عليهم نماذج الإدارة العسكرية بماهيتها ومبادئها العسكرية أم أنهم طوروا نموذجاً خاصاً بحسب مجريات المعارك، على الأقل خلال المدة بين عامي 2011 و2024. قبل الثورة السورية 2011، كانت معرفة السوريين بضباط الجيش محصورة بفيديوهات تدريب القات الخاصة وقوات الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد شقيق الرئيس المخلوع بشار الأسد، وأسماء محددة لضباط مثل سهيل الحسن الملقب ب "النمر" وعلي حيدر الملقب ب "أبي القوات الخاصة"؛ والتي تحتوي مشاهد لعمليات التدريب أو حصص التوجيه السياسي الصباحية وأوامرهم بتنفيذ فروض الطاعة للوطن المرتبط بعائلة الأسد حينها. ترسل هذه الفيديوهات رسائل عن "صلابة" الجيش و"ولاء" القادة والأفراد؛ مع محدودية في فيديوهات جهاز المخابرات بتفرعاته وشُعبه بدءاً من السياسية وليس انتهاءً بالعسكرية والجوية، إذ اقتصرت في عدة مرات على فيديوهات تزعم انها لعناصر من سرية المداهمة 215 يقوم بمهام خاصة في العاصمة دمشق وتكون معنونة ب "شاهد وحوش سرية المداهمة" وغيره من العناوين. زادت حدة هذه الفيديوهات بعد عام 2011، مع ظهور الأعلام العسكري والمراسلين الحربيين من جهة، ومع ظهور حالات خاصة لنموذج العسكري المراسل Military Journalist الذي ظهر على غرار نموذج المواطن المراسل Citizen Journalist، والذي يصوّر قائده أو الضباط المرافقين في العمليات العسكرية ضد المعارضة السورية المسلحة وهم ينشرون التهديديات لهم.كانت قوات النظام السوري تنشر فيديوهات ترهيبية بهدف ترسيخ السيطرة وإظهار القوة الداخلية، واعتمد النظام على القبضة الأمنية الصارمة حتى داخل صفوف الجيش لضمان الولاء التام، وكانت هذه الفيديوهات ترسل رسالة واضحة مفادها أن أي خروج عن الخط الرسمي قد يؤدي إلى الاعتقال أو التصفية. بالإضافة، فإن هذه الممارسات كانت تهدف إلى ضرب أي محاولات للانشقاق أو العصيان، خاصة بعد موجة الانشقاقات التي شهدها الجيش منذ اندلاع الثورة عام 2011، إذ خلق النظام حالة من الرعب لمنع الضباط من مجرد التفكير في التمرد أو الانشقاق، مما ساهم في إحكام قبضته على الشارع السوري وترهيب حتى الذين فروا من بطش النظام وقبضته الأمنية. ظهر عصام زهر الدين، العميد السابق في الحرس الجمهوري، والذي اتهم بارتكاب مجازر بحق المدنيين في الغوطة الشرقية لدمشق وفي دير الزور وغيرها، والذي كان يعتمد عليه النظام في تصفية قادة عسكريين آخرين، في فيديو يتوعد السوريين اللاجئين بعدم العودة إلى سوريا لأنهم سيلقون مصيرًا مجهولاً حال عودتهم في حوار حرفيته " نصيحة من هالذقن لا ترجعوا".تؤكد هذه الفيديوهات هيمنة الأجهزة الأمنية على مفاصل الحياة المدنية والعسكرية في البلاد إذ تملك المخابرات السورية سلطة تفوق سلطة الضباط العسكريين أنفسهم. من خلال إذلال القادة العسكريين علنًا، كان النظام يوجه رسالة مفادها أن الجيش بأكمله يخضع لرقابة صارمة من قبل الأجهزة الأمنية وضباط الصف الأول في الحرس الجمهوري، وأن أي تحرك خارج نطاق السلطة المسموح بها سيؤدي إلى عواقب وخيمة. لم تكن هذه الفيديوهات مجرد أداة ترهيب، بل كانت تُستخدم أيضًا في تصفية الحسابات الداخلية بين الأجنحة المتنافسة داخل النظام. فالجيش السوري ليس كتلة متجانسة، بل يضم ولاءات مختلفة بين الحرس الجمهوري، الفرقة الرابعة، المخابرات العسكرية وغيرها. لذلك، كان يتم استغلال الإعلام في بعض الأحيان للإيقاع بضباط معينين وإذلالهم علنًا بغرض تقليص نفوذهم أو التخلص منهم.لم يقتصر تأثير هذه الفيديوهات على الضباط المستهدفين فحسب، بل كان لها بعد دعائي موجه للموالين والمعارضين على حد سواء. أراد النظام إيصال رسالة واضحة إلى الجنود والمواطنين العاديين: "إذا كنا نفعل هذا بالضباط، فتخيلوا ماذا يمكن أن يحدث لكم." كان الهدف هو تعزيز الخوف، وإجبار الجميع على الطاعة المطلقة دون أي تفكير بالمقاومة أو التمرد.المؤسسة العسكرية التي رتّبها النظام السوري المخلوع تشبه إلى حد كبير المنظمات الكبرى الأخرى في القطاع العام من حيث أنها تميل إلى البيروقراطية الهرمية ويجب أن تظل متجاوبة مع تطلعات "القيادة"، فعلى المستوى الأدنى، قد تكون القيادة العسكرية هي الفارق بين الحياة والموت بالنسبة للعديد من المواطنين الذين يميلون إلى هذه المؤسسة من أبناء الطوائف المستفيدة او المتنفّذين في المؤسسة، وعلى المستوى الأعلى، كان يعتمد بقاء القيادة العليا المتمثلة برأس النظام على القادة في المؤسسة العسكرية؛ وعلى هذا النحو، فإن المؤسسة العسكرية هي "مؤسسة جشعة" ذات طبيعة مستهلكة تتطلب هيكلة معينة تتناسب مع تطلعات القيادة العليا. وبالمحصلة، فإنها قد لا تتطلب وجود ضباط ملتزمين وخريجي أكاديميات حربية ليقوموا بمهام عسكرية، إذ يكفي الولاء والانتماء ليصبح الجنديّ ضابطاً برتبة في جيش النظام السوري البائد.عموماً، هنالك عدة نظريات لتفسير سلوك القيادة العسكرية ، حيث تركز النظرية التحويلية Transformational Leadership على قدرة القائد على إلهام مرؤوسيه وتحفيزهم ليصبحوا قادة في المستقبل، عبر تعزيز التفكير المستقل والابتكار وبناء الثقة بالنفس والقدرة على المراوغة العسكرية بما يضمن منع أي هجوم او تقليص الخسائر في حال التعرض له . أما النظرية التبادليةTransactional Leadership ، فتقوم على مبدأ المكافأة والعقاب، حيث يُحفَّز الجنود بناءً على أدائهم ومدى التزامهم بالتعليمات. بينما تؤكد نظرية القيادة الظرفية Situational Leadership أن أسلوب القيادة يجب أن يتكيف مع طبيعة الموقف وطبيعة الأفراد الذين يتم قيادتهم، في حين تفترض نظرية السمات الشخصية Personal Traits أن القادة يولدون بصفات معينة مثل الحزم، والثقة بالنفس، والقدرة على اتخاذ القرار، مما يجعل القيادة مهارة فطرية جزئياً.أما بالنسبة للحالة السورية، فإن نرجسية القادة العسكريين في جيش النظام البائد تنفي هذه النظريات، وتشكل حالة خاصة من الفهم العسكري، تبدأ من التخبط الإعلامي والبعد عن التقييم العسكري الصحيح للمعارك، والاستعراض العسكري والإعلامي والتصنّع دون معرفة حقيقية بتكتيكات الحرب والاعتماد فقط على الألقاب والأسماء، وإثارة الجدل. بمتابعة ضباط النظام، وربما كان الحديث أكثر عن سهيل الحسن في المدة الماضية بعد ارتباط اسمه بقيادة عمليات جيش النظام لوقف مدّ عملية "ردع العدوان" التي أطاحت بحكم الأسد، فإن السمة الغالبة لهم هي التكلف في اللغة والخطاب غير المفهوم والمليء بالمجازات مع محاولات لإضفاء طابع فلسفي شعري، وتقديم أنفسهم على أنهم خبراء باستراتيجيات الحرب، وانتهى بهم المطاف بإثارة السخرية حتى بين الموالين للنظام البائد. تستلزم صفة "القائد" الظهور بطريقة عقلانية متقنة تعطي إحداثيات صحيحة للمعارك وتطوراتها واليوم التالي لها، بينما في حالة ضباط النظام السوري كانوا يقدمون حارات مسرحية استعراضية مع وعظ وإرشاد ليس بمقام معركة كما في حديث الحسن " على العالم أن يعرف أعداء العالم"، في محاولة لترويج صورة أسطورية لجنرال الحرب، لكن مع عبارات مبالغ بها وخالية من المعنى. قد تبدو هذه العبارات مثيرة للوهلة الأولى، لكنها عند التحليل تظهر خاوية من أي معنى استراتيجي أو عسكري واضح، مما جعل تصريحاته تُعامل كمادة للسخرية على نطاق واسع.فعلياً، يعتمد القادة العسكريون الحقيقيون على مجموعة من المبادئ والكفاءات الأساسية لضمان لإنجاز الأهداف العسكرية بفعالية حقيقية، لا استعراضية. يشمل ذلك اتخاذ القرار الفعّال الذي يعتمد على تحليل شامل للمعلومات المتاحة، والتواصل الفعال الذي يضمن وضوح الأوامر وشفافيتها وامتلاك الذكاء العاطفي لفهم الجنود وإدارة المعارك، إضافة إلى تحفيز الجنود وتعزيز روحهم المعنوية لتحقيق الأداء الأمثل. كما يتطلب التخطيط الاستراتيجي وضع خطط عسكرية محكمة تأخذ في الاعتبار السيناريوهات المختلفة لضمان الاستعداد الكامل، مع الحفاظ على المسؤولية والانضباط لضمان نجاح العمليات العسكرية. هذا هو التصوّر الكلاسيكي للقيادة العسكرية الناجعة؛ لكن يبقى السؤال: كيف كان أشباه سهيل الحسن وأنصاف الضباط يقودون مؤسسة عسكرية في دولة حرّكت جغرافيتها السياسية جيوشًا عالمية لتتصارع على أرضها!