2025- 03 - 04   |   بحث في الموقع  
logo سلام بحث التعاون الأممي وقضايا المعلمين logo جابر يشدد على إنشاء مناطق صناعية لجذب الإستثمارات logo "لا ننسى أسرانا"... عون: لا سلام بدون تحرير آخر شبر من أرضنا (فيديو) logo مقاتلو الحزب يتأهبون لتفجير الميدان في هذا التوقيت.. هشام جابر يكشف أخطر الأسرار: انتظروا الكمائن! logo "تفاهم" بين تل أبيب وبيروت... وأميركا ترفع التجميد عن المساعدات لـ"الجيش" logo في بعلبك وخلدة... "الجيش" يوقف 5 مواطنين ويضبط أسلحة logo حماس: مستعدون للتنازل عن إدارة القطاع بشروط logo طهران وأنقرة تتبادلان التحذيرات واستدعاء السفراء
ثورة بنهايات مفتوحة: هل منَع الدروز تقسيم سوريا؟
2025-03-04 14:56:04

بعد سلسلة من ثلاث مقالات ضمن ملف "لحظات سوريا الفارقة...قبل الأسد"، هنا حلقة رابعة عن الثورة السورية الكبرى التي لم تُخمد جذوتها، إلا وقد خلّفت لمآلاتها نهاياتٍ مفتوحة، مورثة البلاد تركة ثقيلة سيكون على السوريين مواجهتها كأقدار محتومة، حتى لحظتهم هذه، ولعلّ مما يجدر بهم فعله قبل مكابدتها، فهمُها وتحليلها ومن ثمّ البناء عليها.

على المستوى الشعبي، كان لدى المكوّنات السورية جميعها، متعاملون كثر مع الانتداب الفرنسي، وكان من بين تلك المكوّنات أيضاً من انضم إلى الثورة الكبرى التي غيّرت وجه سوريا، وأدّت في ما أدّت إليه، إلى الإجراءات الأمنية الموسّعة التي أخضع لها الفرنسيون المجتمع السوري، فحوّلته وأعادت تكوينه، وخلقت فيه تناقضات ومراكز توتّر وعلاقات معقّدة، ستستمر حتى هذا اليوم. ويورد محي الدين السفرجلاني، نقلاً عن الجنرال موريس ساراي المندوب السامي الفرنسي الذي كان ممن أجهزوا على ثورة السوريين في مذكراته اليومية نصّ برقية، قال فيها ساراي واصفاً أوامر الانتداب العسكرية باستسلام قوى الثورة "طُلبَ إلى قرية جرمانا أن تسلّم بنادقها فلم تفعل، فاضطررنا إلى إحراقها".
مصائر مرقّعي العبي
في ليلة عيد الميلاد من العام 1925، خاطب فرانسوا بيير أليب، الذي سيعيّن حاكماً على دولة سوريا، من مقرّه في درعا البلد، أهل جبل الدروز بالقول "إن سلطان الأطرش كتب لي زاعماً أنه يطلب استقلال سوريا، مهملاً التكلّم عن جبل الدروز. إذن هو لا يرغب في استقلال جبل الدروز. وإنني قد أنذرتكم بأن حملات قوية ستزحف عليكم في الربيع المقبل، فويلٌ لكم إذاك، لأن الشقاء والتعاسة سينزلان بقراكم وعيالكم ومواشيكم". ثم عاد بيير أليب وخاطبهم يوم الأول من كانون الثاني/يناير1926 قائلاً "إلى عموم الرؤساء الروحيين والجسمانيين للجبل وسائر الشعب الدرزي المحترمين.. أيها الدروز؛ إن أمة بني معروف لم تكن في زمن من الأزمان مستعبدة، ونحن الذين منحناكم الاستقلال، وجعلنا جبل الدروز دولة مستقلة مساوية لدولتي حلب ودمشق. وقد عملنا هذه الأمور لمصلحتكم.. إنني أردّد على مسامعكم بأن دولة فرنسا تضمن سلامة رأس كل من يقدّم خضوعه وتؤمن حياته، فقدّموا خضوعكم في الحال".
(سلطان باشا الأطرش في منفاه في الصحراء العربية)قد يبسم القارئ حين يعرف أن بيير أليب هذا، كان من العقول التي خططت لصناعة أنظمة حكم ودكتاتوريات عديدة في المستعمرات الفرنسية بعد منحها ما كان يسميه "استقلالاً"، وهو الذي نظّم، على سبيل المثال، زيارة شخص إثيوبي يدعى تافاري ماكونين إلى فرنسا لتطويبه هناك، وليتحوّل بعدها إلى الإمبراطور هيلا سيلاسي الأول الملقّب بـ"أسد يهوذا" و"ملك الملوك المختار من الله"، والذي وصفه الزعيم الجامايكي ماركوز غارفي، قائد حركة "العودة إلى إفريقيا" الشهيرة، بالقول "هيلا سيلاسي في أحسن الأحوال ليس سوى سيّد للعبيد".
كل ذلك الخطاب الإغوائي، وغيره، مما يشبه ما يتعهّد به بنيامين نتيناهو اليوم من حماية إسرائيلية للدروز السوريين، لم يكن ليقنع أهل الجبل آنذاك، بالانفصال عن سوريا والاستقلال في دولة طائفية. بل خاضوا ثورتهم بضراوة، وحتى الرمق الأخير، وخسرت فرنسا خلال سنوات الثورة تلك نحو خمسة آلاف ضابط وجندي فرنسي، ولم يبق أمامها سوى العنف المفرط لسحقها. فقصفت بؤر الثورة بالطائرات من الجو، وبرّاً استخدمت الكتائب الإثنية التي شكلتها لمطاردة الثوار الذين تعاون عليهم، مع القوات الفرنسية، وجهاءُ وأعيانٌ وشيوخٌ أصدروا بيانات تحظر على الأهالي استضافة وحماية الثوار أو التستّر عليهم في تلك الأماكن، لا سيما في جبل الدروز والسويداء. وتسببت الهزيمة العسكرية للثورة السورية الكبرى بمغادرة قادتها للبلاد اضطرارياً، فاختاروا العيش في المنافي، وكان نصيب القائد الأعلى لقوات الثورة سلطان باشا الأطرش اللجوء خارج سوريا، بعدما صدر حكمٌ بالإعدام بحقه وحقّ رفاقه من الثوار في العام 1927.
لم يعترف سلطان باشا بالهزيمة ورفض تسليم سلاحه للفرنسيين، وغادر معقله في جبل الدروز إلى الأزرق في الأردن، حيث عاش بين قبائل البدو، من عرب الحويطات وبني صخر، وعلى مدار 10 سنوات كانت ظروف لجوئه تزداد قسوة. ورغم الضغوط الفرنسية على الأردن لتسليم سلطان ورفاقه، وعدم استجابة الأمير عبدالله بن الحسين لها، إلا أن الأخير لم يكن مرحباً، كلّ الترحيب، بوجودهم كضيوف عليه، لولا موقف البدو الذين حملوا لقادة الثورة السورية تقديراً كبيراً. وتحت ضغوط قاسية اضطر سلطان باشا إلى الانتقال إلى وادي السرحان والجوف والقريات شمالي العربية السعودية، وهناك استضافه عبدالعزيز آل سعود، ولم يكن قد سُمّي ملكاً بعد، شريطة عدم استهداف فرنسا وممارسة أي نشاط ضدها، واحتضنه بنو خالد وعشيرة الرولة والشرارات. ويصف السفرجلاني أيام سلطان باشا تلك بالقول "أما ما كان من السلطان إذاك أنه آثر البقاء في قريات الملح يومئذٍ ثلاث سنوات قاسى فيها أمرّ العذاب، وعانى خلالها من الصبر على الجوع وعدم توافر الزاد لذويه ما لا يطيق عليه الصبر إلا أولو العزم من الرسل وأولو الهمّة من مثل السلطان".
أخذ البعض يلوم سلطان باشا على ما تعرّض له جبل الدروز وبقية أنحاء سوريا وما تسببت به الثورة السورية من دمار وضحايا، وقال شاعر في قصيدة وصلت مشافهة إلى مسمع سلطان باشا في منفاه "يا ديرتي مالك علينا لوم/ لا تعتبي لومك على سلطانْ". فردّ عليه الأمير زيد الأطرش بقصيدة ستنتشر بين الملايين لا سيما بعدما غنتها أسمهان (آمال) الأطرش وكان مطلعها "يا ديرتي مالك علينا لــوم/ لا تعتبي لومك على من خان/ حنا روينا سيوفنا من القوم/ وما نرخصك مثل العفن بأثمان". وكتب شكيب أرسلان إن الثوار السوريين "ساروا إلى وادي السرحان وانتجعوا واحة النبك وتفيأوا في ظلال تلك الراية العربية الحقيقية، وكانوا نحو ألف وخمسمائة نسمة. ولولا ظل ابن سعود لما قدروا أن يستقروا في مكان ولضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلا يقدرون أن يدخلوا سورية إلا إذا طلبوا الأمان من الفرنسيس ولا فلسطين ولا شرق الأردن ولا العراق تقدر أن تقبلهم وليس لهم سبيل إلى اليمن".
(عيادة في السويداء)وقبل أن يتوجّه إلى الكرك ويبقى فيها حتى العام 1937، كان سلطان باشا قد دعا إلى مؤتمر وطني سوري سمّي بـ"مؤتمر الصحراء" و"مؤتمر وادي السرحان" العام 1929 لبحث القضية السورية ومواصلة النضال ضد الانتداب الفرنسي. وعقد المؤتمر برئاسته في 25 تشرين الأول/أكتوبر1929، وحضره قادة وطنيون سوريون، وصدرت عنه ستة مقررات، من بينها استنكار تعطيل أعمال الجمعية التأسيسية في سوريا، ورفض تصريحات هنري بونسو المفوض السامي الفرنسي على سوريا ولبنان، وكذلك التنديد بمقرّرات مؤتمر زيوريخ الصهيوني السادس عشر الذي عقدت نسخته تلك صيف العام ذاته، فضلاً عن رفض اعتداءات العصابات اليهودية على العرب في فلسطين. وطالب "مؤتمر الصحراء" الحكومة البريطانية بإلغاء وعد بلفور والاعتراف بحقوق العرب الوطنية وسيادتهم في بلادهم لضمان السلام العالمي. وبقيت ثورة "مرقّعي العبي" من البسطاء السوريين، كما كان يقول سلطان باشا، مستمّرة، وهو الذي استطاع بثباته جعلها تدوم 12 عاماً إلى أن حققت جانباً من أهدافها العام 1937 وهو عام توقيع معاهدة الاستقلال الإشكالية بين الفرنسيين والسوريين.
(قادة الثورة)على مستوى آخر، كان أولئك الذين أسهموا في سحق ثورة السوريين آنذاك، يدركون مرارة مواقف قادتها وصلابة ومبدئية تمرّدهم، وفداحة ما تم إلحاقه بهم من ضرر. وعن ذلك يكتب بول كوبلنز، السكرتير الخاص للجنرال ساراي في كتابه "حقائق ووثائق لم تنشر بعد عن الثوره السورية الكبرى": استقى الجنرال ساراي في مذكراته خلال إقامته في بيروت، عبارة مؤثرة من اليوناني ديموستين، قال فيها "يموت سعيداً من استحق إلى آخر دقيقة من حياته، بغضَ أعدائه ووفاء أصدقائه الصدوقين". وقد عبّر السوريون في سنوات الجمر تلك، وفي مقدمتهم الدروز، عن بغضهم، بحق، للاحتلال وقادته وجنوده وعبيده. فعلوا ذلك في السويداء، وفي أماكن أخرى عديدة من سوريا، بينما كان الانتداب الفرنسي يعيد تشكيل البلاد بلا توقّف.
إعادة هندسة سوريا
في قاعة العرض الخاصة بمصنع الخزف الوطني "دو سيفر" ببلدة من ضواحي العاصمة الفرنسية، وضعت معاهدة لتقاسم الأراضي العثمانية يوم 10 آب/أغسطس 1920، وقد تم توقيع بنودها الـ433 التي ستعرف باسم "معاهدة سيفر"، بمشاركة ممثلين آخرين عن الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وبغياب الولايات المتحدة وروسيا. وقد أوفد السلطان محمد الخامس لتوقيعها، نيابة عنه آنذاك، أربعة ممثلين هم الفيلسوف والشاعر والطبيب رضا توفيق، الصدر الأعظم الداماد فريد باشا، السفير رشيد خالص، ووزير التعليم العثماني هادي باشا.أتاحت تلك المعاهدة إمكانية تنظيم استفتاء في مناطق حددتها في المواد من 62 وحتى 64، يختبر كفاءة السكان لإقامة حكم ذاتي أو وطن مستقل لكل من الأكراد والأرمن من عدمها، وخلال مهلة سنة واحدة من تاريخه. لكن معاهدة لوزان العام 1923 تراجعت عن ذلك كله، وتجاهلت ما يتعلق بالمطالب الكردية.
وعلى مدى الزمن الذي أعقب المعاهدتين، سيفر ولوزان، كنتَ لا تكادُ تجالس أسرةً كردية من سكّان الجزيرة السورية، إلا وتسمعُ من كبار السن فيها، عبارة تتكرّر مع شريط الذكريات "حين جئنا من فوق الخط"، و"حين عبرنا الخط"، والمقصود بذلك في سياق سرد حكاية اللجوء الكردي إلى سوريا، وصف عبور اللاجئين لخط الحدود وسكّة القطار التي تفصل الأراضي السورية عن الأراضي التي صارت تركية. حدث ذلك بعدما قامت في جنوب تركيا ثورة يسميها الأكراد "ثورة الشيخ سعيد بيران" عاشت بين شهري شباط/فبراير وآذار/ مارس من العام 1925، وقمعها أتاتورك بقوة. وخلال 15 عاماً بعد ذلك التاريخ، اندلعت 17 ثورة كردية في تركيا، وكانت كلما تفجّرت ثورة منها، نتجت عنها موجات لاجئين أكراد إلى الشمال السوري. وفيما كانت سوريا منشغلة بالثورة الكبرى، كان اللاجئون الأكراد-الأتراك يتدفقون إلى الأراضي السوري، وحتى العام 1938 كان هؤلاء جميعاً يحملون الجنسية التركية.
في تلك السنة، تم توقيع بروتوكول الجنسية بين تركيا وفرنسا، وبموجبه تم إلغاء الحق بالتنقّل الحرّ بين تركيا وسوريا، وكان ذلك متاحاً من قبل بذريعة "حرية الرعي". واعتبر بروتوكول الجنسية أن كل من يحمل الجنسية التركية على الأراضي السورية سيفقدها، إن لم يراجع الدوائر القنصلية التركية المعنية قبل 15 آب/أغسطس من العام نفسه، حتى وإن لم يكن مستقراً في تركيا.
وبسبب خشيتهم من السلطات التركية التي أفشلت ثوراتهم، لم يستجب اللاجئون الأكراد في سوريا لذلك التحذير، وكانت مدة الإنذار شهراً واحداً من تاريخ صدروه، ومع نهاية المهلة أصبح هؤلاء جميعاً "أجانب" بالنسبة إلى تركيا. وزيادة في الضغط عليهم، قام رئيس الحكومة التركية، آنذاك، عصمت إينونو، باعتماد قانون في العام 1939 ينصّ على تأميم أملاك الأكراد الفارين من تركيا.
(محمد كرد علي)من جهتها منحت فرنسا قسماً من هؤلاء اللاجئين الأكراد-الأتراك الجنسية السورية، فاعترض كثير من السوريين على ذلك، وفي مقدمتهم النائب الدمشقي الكردي علي بوظو، ووزير المعارف الكردي في الحكومة السورية، آنذاك، العلامة محمد كرد علي الذي رفع كتاباً إلى الرئيس تاج الدين الحسني العام 1931 يفصّل فيه مشكلة اللاجئين الأكراد-الأتراك ويحذّر من مخاطرها المستقبلية. وقد أورد رسالة محمد كرد علي، الباحث محمد جمال باروت في كتابه الموسّع "التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية" والذي صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - 2013، ويذكر فيه باروت أن عدد الأكراد اللاجئين إلى الجزيرة السورية كان في العام 1925 نحو 6000 لاجئ ثم ارتفع إلى 54340 لاجئاً بحلول العام 1939.
وقد حذّر محمد كرد علي، وقتها، من أخطار تدفق اللاجئين من تركيا إلى الجزيرة السورية، على أمن سوريا، وقال في نص رسالته: "إن جمهرة المهاجرين في الحقيقة هم أكراد نزلوا الحدود، وأقترح إسكانهم في أماكن بعيدة من حدود كردستان، لئلا تحدث من وجودهم في المستقبل القريب أو البعيد مشاكل سياسية، تؤدي إلى اقتطاع الجزيرة أو معظمها من جسم الدولة السورية؛ لأن الأكراد إن عجزوا اليوم عن تأليف دولتهم، فالأيام كفيلة بأن تنيلهم مطالبهم، إذا ظلوا على التناغي بحقهم، والإشادة بقوميتهم". وأضاف: "إن المهاجرين يتوطنون على ضفاف دجلة والخابور وجغجغ والبليخ والفرات، ويقتطعون من شطوط تلك الأنهار ما يروقهم من المساحات، ولا يبعُد أن يجيء يوم تُتَمَلّك فيه تلك الشواطئ، مع أن أكثرها ملكٌ للدولة".
قبل قدوم هؤلاء بقرون، عاش في سوريا عدد كبير من الأكراد في المدن المركزية الكبرى كدمشق وحلب وحمص وغيرها، وأسسوا أحياء ومناطق عرفت بهم، وكانوا جزءاً طبيعياً من الخريطة الاجتماعية التي تداخلت فيها العادات والتقاليد واللغات والأسماء والمهن. وقد أشار الباحث والرحالة والخبير الزراعي السوري، أحمد وصفي زكريا، إلى أن كثيرًا من "أكراد بلاد الترك صار يتهافت نحو المنطقة العربية في الجزيرة، ويتسابق إلى إحياء القرى وإنشاء المزارع". وأضاف زكريا في كتابه "عشائر الشام" الصادر في العام 1947 عن مطبعة الهلال بدمشق: "في حين أن مجيء الأكراد إلى بلاد الشام المتوسطة قديم، وربما كان أول من أتى بهم هو عامل حمص شبل الدولة نصر بن مرداس سنة 434 هجري، وأسكنهم في حصن الصفح ليحفظوه ويصونوا الطريق بين حمص وطرابلس فسمي الحصن منذ ذلك الحين: حصن الأكراد، وهو في قضاء تلكلخ من أعمال محافظة اللاذقية، وقد بقوا فيه نحو قرن ونيف إلى أن جاء الصليبيون، واستخلصوه منهم سنة 530 هجري فتشتتوا. ثم كثر توافد الأكراد في عهد الدولتين النورية والصلاحية لخوض غمار الحروب الصليبية والإبلاء فيها كما قدمنا، ولعل كل من أدى واجبه في الجهاد من هؤلاء كان يعود أدراجه، والذين بقوا منهم استعربوا وذابوا في البيئة الشامية، ولم يحتفظ بصلته بماضيه الكردي إلا الذين وفدوا في العصور الأخيرة".
انتشر اللاجئون الأكراد في الشمال السوري، وأخذوا يستقرّون في أي مكان يجدونه مناسباً في طريق قوافلهم، مؤسسين قرى صغيرة (بعض تلك القرى كان أقل من ثمانية بيوت طينية). وعزّزت اتفاقية أنقرة الأولى، العام 1921، بين فرنسا وتركيا، مصالح الجانبين، وخصوصاً الانتداب الفرنسي الذي اتجه نحو استثمار كل ذرة تراب من سوريا، حسب الرؤية الاقتصادية التي بينّاها في الجزء الثالث من سلسلة المقالات هذه. ولم يكن الشمال السوري في نظر الفرنسيين سوى فرصة استثمارية، ذلك الفضاء الذي انتشرت فيه القبائل والعشائر العربية المترحّلة، كشمّر والجبور وعنزة وطيء وغيرها. وبرزت في حواضره تركيبة سكانية عربية في غالبيتها، كمدينة دير الزور والرقة. فأخذت فرنسا تبحث عمن يشغلون تلك المساحات الشاسعة ويعملون على استثمار ثروتها الزراعية لصالحها، وكان توافر المياه والتربة الغنية في الجزيرة السورية، مغرياً للفرنسيين لزراعة القطن والقمح والشعير بكميات هائلة. وفي الوقت ذاته، كانت فرنسا تبحث عن حلفاء بدلاء موالين لها، بعد رفض القبائل العربية التعاون مع الاحتلال وانخراطها في الثورة السورية الكبرى. وقد سبق الأرمنُ والسريان، الأكرادَ، في اللجوء إلى الشمال السوري قادمين من الأناضول وجنوب تركيا، خلال سني الحرب العالمية الأولى، وقُدّرت أعدادهم حينها بنحو 157 ألف أرمني، استقرّ منهم في الجزيرة السورية وحدها 9788 لاجئاً، بالإضافة إلى اللاجئين السريان.
(زمن الانتداب)معادلة كهذه جعلت فرنسا بحاجة ماسّة (أمنية - اقتصادية) إلى تشكيل كيانات إثنية، في مواجهة القوى الوطنية في دمشق وحلب وحمص وحماة. فأخذت تؤسس مدناً جديدة وتوطّن فيها موظفين ولاجئين لتكون مراكز سيطرة وإدارة اقتصادية. وتم تحويل بلدة الحسكة التي كانت ثكنة عثمانية يحيطها بعض البيوت، إلى مدينة مأهولة فوق أنقاض وآثار مدينة "نهرين" الآرامية، فعيّن فيها الانتداب الفرنسي موظفين مدنيين عرب من دير الزور والرقة والبوكمال وغيرها، بالإضافة إلى دفعه القبائل والعشائر العربية التي كانت تسكن قربها، إلى جوار اللاجئين الشيشان الذين أسكنهم السلطان عبد الحميد في ثمانينيات القرن التاسع عشر في رأس العين وريفها بعد تهجيرهم من القفقاس على يد روسيا القيصرية.
وفي العام 1925، تم تخطيط مدينة القامشلي في واحة القصب على ضفاف نهر الهرماس (الجعجغ) المقابلة لمدينة نصيبين التركية، ومنحت فرنسا للقامشلي لقب "باريس الصغرى" بعدما رسم شوارعها وحدائقها الضابط الفرنسي الكابتن تيرييه، ودعت، كما في حالة الحسكة، موظفين عرب ووجهاء وشيوخ قبائل عربية ولاجئين أرمن وسرياناً وأكراداً إلى السكنى فيها. وبناء على تلك السياسات، أنشأت فرنسا بين العامين 1926 و1940 ما يقرب من 1240 قرية، ولم يكن لتلك القرى من وجود من قبل، ليصل عددها بعد خمس سنوت فقط إلى 1800 قرية في الجزيرة السورية وحدها، متشكلة من خليط من السكان الأصليين والأقوام الوافدة.
أصبحت سوريا ملاذاً لضحايا التحولات الجارية من حولها، وكحال اللاجئين الأكراد، كان عليها أن تستقبل ضيوفاً جددَ يعبرون حدودها الجديدة. فبعد نزوح آلاف الأشوريين من تركيا، إثر صدامات مع الأتراك والعشائر الكردية، استقر الآشوريون في العراق تحت الانتداب البريطاني، وخدمو كقوات عسكرية في الجيش البريطاني ضمن لواء أطلق عليه اسم "الليفي الآشوري"، قبل أن يسارعوا إلى المطالبة بحكم ذاتي قومي عندما أُعلن استقلال العراق العام 1932. لكن بريطانيا وحكومة بغداد رفضت مطالبهم، وكانوا حينها بقيادة البطريرك النسطوري مار إيشاي شمعون.
وعلى النقيض من اللاجئين الأكراد، طالب الآشوريون بالعودة إلى تركيا، غير أن الأخيرة رفضت مطلبهم، فتوجهوا إلى عصبة الأمم بالمطالبات الخطية بتوطينهم في بلد أوروبي أو في بلد قريب مناسب وتحت سيطرة دولة أوروبية يمكنها أن تحميهم، ولم يكن ذلك البلد سوى سوريا. لم تستجب لهم بريطانيا، فانسحبوا من "الليفي"، وتحولوا إلى ميليشيات متمرّدة. وفي صيف 1933 تفجّرت الأوضاع، وتم قمع ثورة الآشوريين الذين هاجموا مراكز الجيش العراقي، فارتكبت بحقهم مذبحة في بلدة "سميل" قتل فيها ثلاثة آلاف آشوري وآشورية، غالبيتهم من المدنيين، وصار ذلك اليوم يعرف بمذبحة "سميل"، وتم نفي زعيمهم إلى قبرص.
بتفاهم بريطاني فرنسي مضمر، غضّت فرنسا الطرف عن لجوء الآشوريين من العراق إلى سوريا، وشوهدت قوافل الآشوريين تصل إلى الأراضي السورية من الشرق، وتستقر على امتداد حوض نهر الخابور في الشمال. وبدأت تظهر قرى وبلدات جديدة أبرزها "تل تمر" التي كانت بلدة صغيرة، ومع الأيام غطّت أصوات طبول الآشوريين وهسيس النيران التي كانوا يوقدونها قبل كل مناسبة بأيام لإخبار الجميع أن شيئاً ما سيحدث، على الكثير مما كان يجري ترتيبه على امتداد مشهد ديموغرافي سوري كان يتغيّر كل يوم.
تشكّل وفقاً لذلك التحوّل الرملي السكاني واقعٌ جديد، وظهرت قوى بشرية جديدة، ولن يكون مفاجئاً أن يعلن الفرنسيون تشكيل "الكتيبة الكلدو آشورية" المكوّنة من اللاجئين الآشوريين، إلى جانب "الفيلق الشركسي" الذي قاتل مبكّراً ضد الثوار في حوران والغوطة، ومعه "الكتائب الكردية" التي ساندت الجيش الفرنسي ضد الثورة في الشمال السوري. كما تم تشكيل "قوات الشرق الخاصة" (Troupes Spéciales du Levant) العام 1924، والتي ضمّت كتائب من مختلف الأقليات العددية الدينية والعرقية، بما في ذلك الشركس والأكراد والعلويين والدروز، وجرى إنشاء وحدات درك وشرطة محلية تتألف من أفراد هذه المجموعات لبسط الأمن وتنفيذ السياسات.
وفي بحمدون اللبنانية، وفي ظل تلك الأجواء، وبدعم فرنسي مباشر، ولدت منظمة قومية كردية حملت اسم "خويبون" بعد اجتماع عقد يوم الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر1927. وتذكر نيليدا فوكارو، المؤرخة والأكاديمية الإيطالية المتخصصة في تاريخ الشرق الأوسط، إن أنشطة خويبون "كانت في الجزيرة، إلى حد كبير، بتشجيع من سلطات الانتداب الفرنسي التي كانت تحاول دعم ظهور خصوصيات الهوية في المناطق الريفية في سوريا، لكي يوازي النفوذ المتنامي للقوميين العرب في المراكز الحضرية الكبرى". ووفقاً لمقال لفاهيه طاشجيان، فإن مصلحة مفوضية بيروت الفرنسية تمثّلت وقتها في "أن تكون حليفة للقبائل الكردية في شمال سوريا، والتي كانت تستطيع أن تلعب دوراً مساعداً في حالة الحرب. خصوصاً أن الزعماء الأكراد كانوا يتمتعون بنفوذ قوي على مواطنيهم الذين يعيشون في تركيا". (مدارات كرد - ترجمة يونس أسعد).
لقد خلّف خبراء الانتداب الفرنسي وفرق جمع المعلومات، وراءهم، الكثير من الوثائق في وزارة الخارجية الفرنسية، انشغلت بالدروز والشيعة، والعلويين، والشركس. كانت تلك الأبحاث تركّز على الإشكاليات المحيطة بالإثنيات في سوريا، وتشجّع على استيعابها في "جيش الشرق" (Armée du Levant) الذي انتظم في 10 كتائب، وبلغ عديده ما بين 10 آلاف و12 ألف جندي من المشاة كان معظمهم من العلويين، إلى جانب 22 سربًا من المشاة الدروز والشركس والكرد وغيرهم، تدعمهم ثلاث سرايا من الهجانة. ولم يكن ذلك الجيش خالياً من العرب المسلمين السنّة، إلا أن نسبتهم كانت الأقل دوماً. وسيكون لجيش المشرق التدخّل الأكبر في الحياة العامة السورية في العقود التالية، من دون أن يغفل المرء عن التوقّف عند تأييد قادة ذاك الجيش في الحرب العالمية الثانية لحكومة فيشي الموالية للنازيين.
كانت تلك الأنواء تنذر بتفتيت حتمي لسوريا كجغرافيا وسكان، ويحضر باستحضارها اليوم العديد من الأسئلة حول المكونات. ماذا لو لم يستجب الدروز لدعوة النخب الوطنية التي ثارت ضد فرنسا في العام 1925؟ وماذا لو لم يعتبروا أن الثورة السورية الكبرى هي ثورة الجبل؟ وماذا لو قبلوا بالاستقلال وإنشاء كيان درزي خاص بهم؟ وكم كان ذلك سيغيّر من شكل سوريا التي نعرفها؟ وما الذي فعلته إعادة هندسة سوريا أمنياً بالمجتمع السوري، الذي عليه أن يقبض اليوم على شعور وطني جامع يؤسس مواطنته عليه؟
قدّم الدروز ومعهم بقية السوريين في الثورة السورية نحو 4213 شهيداً، أي ما نسبته نحو 2 بالألف من عدد سكّان سوريا البالغ حينها مليونين ونصف المليون نسمة، أي أكثر من نسبة شهداء الثورة البلشفية في روسيا في العام 1917. لكنهم سيدفعون ثمن ثورتهم تلك غالياً على امتداد عقود القرن العشرين وربع القرن الذي تلاه.
(يتبع: الحياة السياسية على أنقاض الثورة السورية الكبرى)


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top