بعد أيام من فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، تدافعت كبريات الصحف ووكالات الأنباء العالمية للتحدث إلى كثير الألقاب العلمية، فرانسيس فوكوياما، للوقوف على رأيه بما يعنيه اقتراع الأميركيين مرة ثانية لصالح ترامب. بين الكثير الذي قاله الرجل حينها، أشار إلى أن زلزال ترامب الثاني، الأشد ترامبية من الأول، لن يضرب أميركا وحدها، بل العالم بأسره. ولن يتوقف الأمر على العواصف التي ستضرب كل مناطق الأرض، بل ستطال كل القيم والمعايير التي ترسخت بعد الحرب العالمية الثانية.بديهية أن أوكرانيا ستكون على رأس قائمة الخاسرين بوصول ترامب، كان يعرفها الجميع والأوكران أولهم. وحين وصل زيلينسكي في 28 المنصرم إلى البيت الأبيض، كان يصطحب معه حقيقة الخسارة، وجاء ليفاوض ويوقع على حجمها. ولم يكن ترحيب ترامب به عند نزوله من السيارة يشي بأي مجابهة. لكن الملاحظة المتعلقة بثيابه كانت تقول غير ذلك. والثياب التي كان يرتديها لم تفارقه منذ بداية الغزو الروسي، وزار البيت الأبيض غير مرة وهو يرتديها.
يرتدي الثياب عينها التي لم تفارقه منذ بداية الغزو الروسي، والتي لم تفسرها إدارة بايدن وكل من التقاهم الرجل خلال السنوات الثلاث الماضية بأنها "قلة إحترام". وزيلينسكي ليس الأول الذي يزور البيت الإبيض من دون اللباس الرسمي المعروف. فقد كان تشرشل يقابل روزفلت بالثياب التي كان يرتديها البريطانيون فوق ملابسهم العادية أثناء نزولهم إلى الملاجئ بعد صفارة إنذار الغارات الجوية الألمانية. وحسب المدون الروسي رستم أغاداموف المعروف الذي أتى على ذكر هذه الواقعة، وحدد تاريخ زيارة تشرشل للبيت الأبيض وهو يرتدي هذه الملابس في 17 كانون الثاني/يناير 1942.كثيرون يجزمون بأن سيناريو المجابهة أعدت له إدارة ترامب مسبقاً، ولم تكن ملابس زيلينسكي سوى إشارة بداية التنفيذ. كما يرى كثيرون آخرون أن المجابهة كانت هدية قيّمة لبوتين الذي رأى فيها تنازلاً كبيراً من جانب ترامب عن إحدى أهم أوراقه في المفاوضات المرتقبة.
نقل المدون عن السيناتور الديموقراطي الأميركي Cory Booker تغريدة علق فيها على مجابهة ترامب ونائبه مع زيلينسكي. ومما قاله السيناتور: "اليوم لم يظهر دونالد ترامب وجي دي فانس القوة. لقد أظهروا الضعف. حاولوا التقليل من شأن العظمة، ولم يظهروا إلا تفاهتهم... لقد وقف أمامهم محارب مرهق، لكنهم لم يظهروا الروح النبيلة ولا الحكمة الديبلوماسية. لقد تصرفوا مثل الحشاشين الصغار ذوي المناصب الرفيعة، مما يحط من تاريخ وتراث البلد الذي يحكمونه.طرحت "المدن" على خبيرين أوكرانيين بضع أسئلة متعلقة بالمجابهة.
البوليتولغ الأوكرانية الحائزة على دكتوراه بالعلوم السياسية أوليسيا ياخنو (Olesya Yakhno)، ورداً على سؤال ما إذا كانت المجابهة سيناريو مسبق التحضير استعداداً للمفاوضات مع بوتين، قالت بأنها لا تعتقد بوجود مثل هذا السيناريو المسبق. والمشاحنة العلنية التي حدثت كانت تفترضها التناقضات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا بشأن التوجهات والرؤى المتعلقة بالتحرك نحو السلام. ورغبة ترامب في تأجيل الزيارة كانت تؤكد وجود هذه التناقضات، ولم يثنه عن رغبته سوى تدخل الرئيس ماكرون.
إدارة ترامب تريد التوصل بسرعة إلى السلام. ويستغل بوتين هذه الرغبة لفرض سيناريو وقف سريع للحرب على حساب تنازلات من جانب أوكرانيا فقط، أو سيناريو فرض إجراء انتخابات رئاسية تضيف إلى مخاطر الحرب مخاطر إجراء انتخابات لا تتوفر شروط أمنها الداخلية. بعد خروقات روسيا المتكررة منذ العام 2014 لاتفاقات وقف إطلاق النار، والتجربة السلبية مع مذكرة بودابيست (نزاع سلاح أوكرانيا النووي مقابل ضمانات أمنها)، يريد ألأوكران فهم المكونات التي تضمن السلام، "وهذا مشروع كلياً". ولذلك، فإلى أن يتم حل هذه التناقضات، فإن أي حوار محتمل سيظل محفوفاً بالمشاحنات.وفي الرد على السؤال، ألم يكن بوسع زيلينسكي أن يتصرف بشكل مختلف مع ترامب؟ على غرار ما قام به الملك عبدالله الثاني قبل أسبوع، رأت الخبيرة صعوبة في طرح مثل هذه الفرضية، وذلك نظراً للتصريحات العديدة في الأسابيع الأخيرة، والحوار غير العلني الذي لم يكن أقل سخونة على ما يبدو. ولكن الأمر لا يتعلق بالكلمات فقط. لقد شهدنا في الأسابيع الأخيرة تصريحات إيجابية حول السلطات الروسية، وفي المقابل، انتقادات للسلطات الأوكرانية. وقال ترامب إن روسيا تريد السلام، لكن أوكرانيا لا تريد ذلك. وهذا غير صحيح، لأن روسيا تواصل ضرب أوكرانيا بشكل يومي، من دون أن تبدي أي رغبة في وقف العمليات العسكرية، ولا تتم مناقشة أي تنازلات من جانب روسيا على الإطلاق.
يتبين أنه، بالإضافة إلى التنازلات والافتقار إلى الآليات لضمان الأمن، يجب على الأوكران أيضا التكيف مع روسيا على المستوى اللفظي، وتجنب تسمية الأشياء بمسمياتها، أي أن روسيا هي التي بدأت الحرب واحتلت أراضي اوكرانيا، وليس العكس.
وعن إمكانية بروز أصوات معارضة للرئيس زيلينسكي على خلفية فقدان المساعدات الأميركية، قالت الخبيرة أنه، وبعيداً عن زيارة واشنطن، ثمة من يعارض أو يؤيد ما تتخذه السلطة من خطوات. لكن، بعد الزيارة، رجحت كفة المؤيدين.البوليتولوغ أوليغ ليسني Oleg Lesny استكملنا الحديث الذي بدأناه معه سابقاً، وطرحنا عليه الأسئلة عينها التي طرحناها أعلاه.
بشأن السيناريو المعد مسبقاً للمواجهة بين ترامب وزيلينسكي، قال إن هناك الكثير من نظريات المؤامرة تدور حول هذه المجابهة. لكنه يرى شخصياً أن الرئيس ترامب اصطدم بشكل غير متوقع بصعوبات كبيرة تواجه إنهاء الحرب بسرعة. وأصبح هو نفسه أسير أوهامه حول "السلام السريع". وكان عليه أن يجد من أو ما يعرقل خطته. ووقع الخيار على زيلينسكي، ولا فرق إن كان تم إعداد سيناريو ما حدث أم لا، لأن ذلك لن يغير من حقيقة أنه لم يكن لدى ترامب "خطة سلام" حقيقية. وفي الوقت عينه، هناك رغبة قوية من جانب الإدارة الجديدة في البيت الأبيض لحل هذه المشكلة على حساب أوكرانيا وإقامة علاقات "شراكة" مع روسيا.
وعما إذا كان بوسع زيلينسكي أن يتصرف على نحو آخر لتفادي المواجهة التي وقعت، يرى الخبير أنه كان بوسع الرجل أن يتصرف على نحو مغاير، فيما لو أن الطرف المقابل أظهر الاحترام الذي يستحقه بلد مقاتل.وماذا سيحدث لأوكرانيا من دون مساعدة الولايات المتحدة، يرى أن خطر وقف المساعدات التي كان مخطط لها أن تصل، هو خطر قائم لكنه ليس حتمياً. ومهمة هنا الأولوية التي تضعها نصب عينها الإدارة الأميركية: الرغبة في معاقبة أوكرانيا على عصيانها، أو الحفاظ على صورة الشريك الموثوق أمام العالم. في كييف يبحثون في كل السيناريوهات المحتملة. لكن ما يمكن تأكيده بكل ثقة: إذا رفضت الولايات المتحدة مساعدة أوكرانيا، فإنها بذلك ستقف إلى جانب روسيا.
وعما إذا كانت المساعدة الأوروبية كافية للصمود بوجه القوات الروسية، قال إنه ليس سراً أن أوروبا عاشت منذ زمن طويل وفقا للصيغة التالية: من الأفضل التجارة بدلا من القتال. وبناء على ذلك، كانت الاستثمارات ضئيلة في الصناعات الدفاعية. لكن الآن، وخصوصاً بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، أصبحت مضطرة إلى الاستعداد لحرب محتملة. لكن من الواضح أن أوروبا لن تكون قادرة على استبدال بعض الأسلحة التي تزود بها الولايات المتحدة أوكرانيا.