2025- 03 - 04   |   بحث في الموقع  
logo رئيس الجمهورية في السعودية.. إعادة الحياة للعلاقات مع المملكة!.. ديانا غسطين logo المشهد السياسي.. سلام المعادن بين السقوط او العبور!.. بقلم العميد منذر الايوبي logo عصر بلطجة ترامب: إسرائيل تستعجل تخريب سوريا وتقويض إيران logo قرار نزع السلاح الفلسطيني في المخيمات رهن المظلة العربية؟ logo عودة الظاهر بيبرس والزير سالم logo لجنة الدستور السورية: الشرع لم يكُن بحاجة لها logo إحباط عملية تهريب أسلحة إلى لبنان logo انتهاء الاجتماع بين عون وولي العهد السعودي
عودة الظاهر بيبرس والزير سالم
2025-03-04 00:25:47

كان يحضر أربع علب فارغة من حليب "النيدو"، يكدّسها فوق بعضها البعض، ويجلس أمامها متخيّلاً أنها تلفاز. يرفع يديه عالياً ويصرخ بحماس: "هدف! هدف!" ثم يصفق بحرارة، وكأنّه يرى أمامه مشهداً حيّاً من مباراة الكابتن ماجد، رغم أن شاشته لم تكن سوى بناء من علب معدنية فارغة.
لم يكن ذلك الطفل يملك تلفازاً، ولم تكن قريته تعجّ بالشاشات، لكن عينه أبصرت هدفاً حقيقياً ذات يوم، ليس في بيتهم، ولا حتى في بيت الجيران، بل في منزل رجل وحيد، كان الوحيد في القرية الذي يملك تلفازاً. ذلك الجهاز لم يكن مجرد أداة ترفيه، بل نافذة سحرية لا يمتلك مفتاحها سوى ذلك الرجل، الذي قيل إنه اشتراه...أو ربما صادره حين كان ضابطاً في فرقة سرايا الدفاع.في ذلك المشهد الصغير، بين العلب الفارغة وتلفاز الرجل الوحيد، تجسّدت أسئلة وجودية أكبر من عمر الطفل: هل نرى الواقع كما هو، أم كما نتخيله؟ هل الحلم بديلٌ عن الحرمان، أم هو تمرين على إدراك الممكن؟ وهل التلفاز ملكية خاصة، أم نافذة يجب أن تكون مفتوحة للجميع؟في قريتي، كانت المخيلة وسيلة للنجاة، وكان طفلٌ صغير يبتكر شاشةً من العدم، ليشاهد فيها ما حُرم منه، ويرسم ببراءته ملامح عالم أكثر عدلاً، حيث لا يحتكر أحدٌ الحلم.كبر الطفل، لكنه لم يتخلَّ عن صناعة الأحلام. وكما كان يرتب علب "النيدو" فوق بعضها البعض ليبني شاشةً يتابع فيها خيالاته، ظلّ السوريون في العقود الماضية يكدّسون آمالهم، واحدًا فوق الآخر، في انتظار وطنٍ تتسع فيه حرية الكلمة، ويمنحهم حقّ الحلم من دون خوف. حلمنا جميعًا ببطلٍ يشبه الكابتن ماجد، يقفز فوق العقبات، ينقذنا من حرارة الصفيح الساخن تحت أقدامنا، يقودنا إلى انتصار مستحقّ، أو ربما... كنا نحن الراغبين في أن نكون أبطالاً.لكن البطولة لم تكن تُمنح مجاناً، وكان على الحالمين أن يتركوا قراهم البسيطة، أن يخرجوا من ضيق المكان إلى اتساع الدهشة، من الحقول والأزقة الضيقة إلى صخب المدن. فكيف إذا كانت هذه المدينة دمشق؟ المدينة التي لا تشبه غيرها، المدينة التي تحمل الحلم بيدٍ، والمحنة باليد الأخرى، وتدعوك لخوض اختبارٍ صعب بينهما. دمشق ليست مجرد وجهة، بل هي امتحانٌ لكل من حلم يوماً بالبطولة. فهل كنّا مستعدّين لاجتيازه؟خبز المُخبرينلم أحب يوماً خبز الأفران، ذلك الرغيف الذي تخرجه الآلات باردة الروح، بلا حياة، بلا ذاكرة. ربما زاد كرهي له حين رأيت السوريين واقفين في طوابير طويلة، وجوههم متعبة، وكرامتهم تُختبر مع كل خطوة يقتربون بها من نافذة البيع. كان الرغيف هناك سلعة نادرة، ووسيلة إذلال قبل أن يكون طعاماً. وعلى النقيض من ذلك، كانت رائحة خبز التنور دائماً تملأني بالحياة. تلك الرائحة الحرّة، الممتزجة بدخان الحطب، برائحة الأرض حين تلامسها الأيادي الخشنة، بالأصالة التي لا تعرفها خطوط الإنتاج. لكن دمشق، كعادتها، لا تكفّ عن إدهاشي. في شارع 29 أيار، أرى رجلاً يفترش الرصيف، يبيع خبزاً لم أره من قبل. أقترب منه بدافع الفضول، فيخبرني أنه "خبز رمضان". أتذوقه... طعمه مختلف، له مذاق التاريخ والأيام التي لم أعشها. أحدثه عن خبز التنور، عن تشابه الحجم والروح بينهما، فيسألني عن قريتي، ثم يتعمّق أكثر، يسألني عن رأيي في ما يحدث في البلاد. أفتح فمي لأجيب، لكني فجأة، أشعر بيدٍ تشدّني بقوة. صديقي الدمشقي يهمس لي بتحذير: "إنه مخبر!". تتملكني الدهشة من جديد. ألتفت لأرى الرجل يواصل البيع كأن شيئاً لم يكن، وصديقي يستفيض في الشرح: "معظم هؤلاء الباعة الذين يظهرون فجأة في شوارع دمشق خلال هذا الشهر... ليسوا مجرد بائعين".في دمشق، حتى الرغيف قد يكون فخاً، حتى الأسئلة البسيطة قد تحمل نوايا غير بريئة، وحتى الجوع... قد يكون أقلّ قسوة من الخوف. أيُّ عقلٍ مؤامراتي هذا؟ لم أعشه يوماً، ولم أرَه إلا في القصص والروايات. فأنا التي اعتدت الكلام بحرية بين أهل قريتي البسطاء، أتنقل في جبالها بلا قيود، أتنفس فضاءً مفتوحًا بلا خوف. والآن، أجد فمي مقيداً في مدينة عشقتها منذ لحظة وقعت عيناي عليها.الخبز جارح الصائمأكسر قطعةً من الرغيف، أضعها في فمي، أبتلعها بمرارة، لا لأن الخبز سيئ، بل لأن شيئاً ما في الهواء لم يعد كما كان. في الزحام، يبتسم لي أحدهم: "بالصحة والعافية". أمدّ إليه الرغيف، يردّ بلطف: "أنا صائم". أتمنى له صياماً مقبولاً، نمضي، كلٌّ في طريقه، وأنا لا أفكر سوى في لحظة العفوية تلك، في لقاءٍ عابر لم أكن أعلم أنه قد يحمل في طيّاته أكثر مما بدا عليه. لم أدرك وقتها أنني بلا قصد، كنت أجرح مشاعره، أو ربما مشاعر غيره. لم أفهم ذلك إلا اليوم، عندما قرأت تعميماً رسمياً يحذّر من "المجاهرة بالإفطار"، ويقرّ بمعاقبة من يفعل ذلك بتهمة "التعرض للآداب العامة"، بل وتوقيفه وتحريك دعوى ضده.أتذكر حينها عصا الرمان في يد أستاذي في الصف الخامس، تلك العصا التي كان يلوّح بها مهدداً: "العصا لمن عصا!" وأتذكر وجه الرجل الذي ابتسم لي في الشارع، وقال بخفة: "أجري في الجنة زاد ضعفين بفضلك". منذ تلك اللحظة، احترمت رد فعله، ولم آكل مجدداً في شهر الصيام. لم يكن خوفاً من القانون، بل احتراماً لذلك الشعور الذي قرأته في عينيه، ولدرسٍ لم أتعلمه من العصا، بل من ابتسامة.حكواتي تنتحر قصصه بسيفهالحكاية هي أصل كل شيء، فهي التي رسمت ملامح الوجود منذ البدء. ألم تبدأ الحياة بقصة؟ آدم، حواء، والتفاحة المحرمة. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف البشر عن خلق الحكايات، نسجها، وتناقلها عبر الزمن. لكن الحكاية ليست مجرد كلمات، بل كياناً حيّاً يحتاج إلى أركانه: حدثٌ قادح، تشويقٌ متصاعد، وراوٍ بارع يجيد فن السرد. وإلا، كيف كانت ستنجح في جمع أهل قريتي كل مساء حول امرأة حكّاءة، تسرد القصص بأسلوب يأسر العقول، وتتركها عند ذروة مشوقة، تدفعنا للانتظار بشغف حتى اليوم التالي؟ما زلت أذكر كيف كنا نترقب مصير الرجل الذي واجه الضبع في الجبال، وكيف كنا نرتجف عند سماع قصة الجنية التي أحرقت طرف فستان فتاة من قريتنا ومنعتها من الزواج، وكيف كنا نحلم بملوك القلعة الأثرية في قريتنا، ونتساءل: هل سكنوها حقاً أم أنهم مجرد خيال نُسِج حول حجارتها العتيقة؟ الحكاية ليست مجرد ماضٍ نرويه، بل شريان حياة يمتد بين الأجيال، ينقل الخوف والحلم، الحقيقة والخيال، ويجعل من الراوي مرآةً لروح المكان. فكما كانت الحكاية تجمع أهل قريتي، تتجلى يوم في زوايا دمشق العتيقة، حيث ما زال الحكواتي يسرد قصصه في المقاهي، ينطق بالكلمات فتتراقص الأرواح، وكأن الزمن لم يسرق من الحكاية سحرها.وفي تأصيل للحالة الأدبية في تاريخ منطقة الشام، تغدو حالة الحكواتي وفقاً لما روى لي صديقي الذي كان يصحبه جدّه الى مقهى النوفرة الشعبي، ظاهرة تحمل مقومات خاصة في نسيج المجتمعات المحلية لا سيما في رمضان.عمّ كان يحدثكم؟ عن الظاهر بيبرس وعنترة بن شداد والزير سالم... يجتمع رجال دمشق القيمرية، والبزورية، والسنجقدار، والقباقبية وباب سريجة، ليسمعوا القصص وسط تفاعل كبير. أصرُّ على الذهاب والحنين يملأني لسماع القصص. يأتي رجل يحمل سيفاً ويرتدي طربوشاً ويبدأ بسرد الأمثال الشعبية والحكاية الكامنة وراء كل مثل، شاهراً سيفه. أُصاب بالملل في المقهى المجاور للجامع الأموي. لماذا يتلو مثلاً وراء الآخر. يقول صديقي: "هكذا أضمن". أصاب بالحيرة.صوت الحكواتي خلفية للمشهد الدرامي. "أضمن من شو؟"، ما المشكلة في قصص الظاهر بيبرس والزير سالم التي يعرفها الجميع؟ "الأسئلة المفخخة من قبل البعض". وأعرف لاحقاً أنه اجتهاد شخصي من قبل الحكواتي ذاته. الرقابة التي نفرضها على أنفسنا نحن، قبل ان تفرضها علينا السلطة. أغادر المقهى حزينة على "الحكواتي" الذي لم يبق منه إلا السيف الذي يشهره في وجهه هو، قبل أن يشهره في وجوهنا. فهل تحرر هذا "الحكواتي" مع تحرر دمشق؟خُضار تنافس اللحومفي دمشق، عرفت طقوس رمضان من قرب، واكتشفت أن الموائد الرمضانية ليست مجرد تجمعات للطعام، بل مساحة للتواصل الاجتماعي، حيث يتسابق الصائمون لدعوة الضيوف، وكأن الكرم في هذا الشهر اختبار يومي. كنا نعمل كصحافيين في مجلة سورية، وكنا نجد أنفسنا كل يوم على مائدة جديدة، لكن أكثرها دفئاً لم تكن الأفخم، بل تلك التي دعتنا إليها إحدى العاملات البسيطات في المكان، التي رغم ضيق الحال، قدمت لنا ما تيسر بحبّ خالص. لكن، شيئاً فشيئاً، بات ضيق الحال يفرض نفسه على كل الموائد، حيث أصبح سكان الشام يشكون وفرة المواد وقلة السيولة، في مفارقة تعكس واقعاً بائساً سُلّمت إليه البلاد بعد سنوات من الانهيار. واليوم، بات الحديث في شوارع دمشق يدور حول الارتفاع غير المسبوق في أسعار الخضار. الفاصولياء والخضار الورقية تنافس اللحوم في أسعارها، بينما يعيش الناس يومياتهم وسط حوادث أمنية خطيرة تتكرر باستمرار.الساعة الآن الثانية عشرة ظهراً. دمشق بلا خبز رمضان، بلا مُخبرين، بلا رقيب ذاتي... حتى هذه اللحظة. عاد الحكواتي، عاد صوته، عادت حكايا الظاهر بيبرس والزير سالم، لكنه هذه المرة شهَر سيفه، ونحن نجلس ننتظر النهاية، علّها تكون سعيدة.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top