في عام 2002، احتفى المعهد الفرنسي للشرق الأدنى الذي أسست وأدرت فرعه في حلب بين عامي 2000 و2005، بذكرى مرور 100 عام على وفاة الإمام عبد الرحمن الكواكبي. وقد نظمّ المعهد في هذا الإطار، ندوة علمية دُعي إليها كبار المفكرين والباحثين في أمور عصر النهضة مثل الصديق المرحوم نصر حامد أبو زيد، والصديق المرحوم فالح عبد الجبار، والصديق المرحوم الشيخ محمد حسن الأمين، والباحث في علم الاجتماع آصف بيات، والأصدقاء السوريين أحمد برقاوي والراحل يوسف سلامة وحمد جمال باروت وعبد الرزاق عيد ومحمد كامل الخطيب ومحمد جمال طحان. كما شارك فيها مجموعة من أهم الباحثين الفرنسيين المشتغلين على موضوعة الفكر الديني كآلان روسيون وفرانسوا بورغا. وعقدت الندوة التي أدار محاورها المؤرخ ماهر الشريف، تحت عنوان "الإصلاح الديني ومصائره في المجتمعات العربية". كانت المحاضرات تعرض لفكر الكواكبي، أو تناقش التراث الديني مبرزة أهمية التأويل والتجديد بحثاً عن الأجوبة في مواجهة التحديات والمتغيرات، أو تحلل أسباب تراجع الفكر الإصلاحي الديني وسبل إعادة الاعتبار له.حضر الندوة جمهور حلبي كبير كان متعطّشًا للقاءات بهذا المستوى العلمي الرفيع في ظل قحط ثقافي أسدي مهيمن ومنهجي. وما كان لها أن تُعقد لولا أن بشار كان وريثًا حديثًا لرئاسة الجمهورية عن أبيه، وكانت علاقته مع فرنسا ورئيسها جاك شيراك حينها في مرحلة شهر العسل قبل الطلاق إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري سنة 2005. وتميّزت الجلسات بهدوء نقاشاتها على الرغم من أنها تعرّضت لمواضيع حساسّة قابلة للاشتعال، خصوصًا في مُجتمعٍ حُجبت عنه حرية التعبير عمومًا، وحرية البحث العلمي في العلوم الإنسانية خصوصًا.
بعد انتهاء الندوة بساعات، ومغادرة الضيوف وعودة الجمهور إلى بيته وعمله، انهالت الاتصالات الأمنية من كل فرع وشعبة. وكانت تسأل عن الندوة وعمّن حضر وماذا قال. وعلى الرغم من التواجد الأمني الكثيف أثناء الندوة والذي كان متمثّلاً بمخبرين أشاوس تابعين لكافة فروع الأمن الموجودة في المدينة، إلا أنه يبدو أنهم لم يفهموا شيئًا مما ورد فيها وفي نقاشاتها، فكتبوا تقاريرهم كما كنا نكتب كلمات أغاني أم كلثوم في إجاباتنا على أسئلة الامتحانات الجامعية التي لم نستعد لها.تنوّعت الأسئلة، كما أسلوب طرحها، من فرع أمني لآخر. فبعضهم تساءل عن المشاركين من فرنسا وعما إذا كانوا قد أجروا اتصالات مع محليين. والبعض الآخر، استغرب اهتمام فرنسا بذكرى الكواكبي وهو بذلك يُبدي جهله البنيوي بكيفية عمل المراكز البحثية، أو أنه يقيسها على نفسه معتبرًا بأن نشاطها يستند أساسًا على مبدأ المؤامرة. وكان من "أخطر" الأسئلة الأمنية ذاك الذي استغرب دعوة الصديق المرحوم نصر حامد أبو زيد، الذي كان حينها ضحية ألسنة السوء الأزهرية والتي دفعته للعيش في منفاه الهولندي. وعندما أجبت السائل مع جرعة سخرية لا بأس بها بأنني نظّمت الندوة مستلهمًا توجّه الحكومة الرشيدة إلى الإصلاح والتنوير. فأجابني حينها كبير قوم هذا الفرع حرفيًا "لقد أمضينا عقودًا لنجعل من الشعب بهائم تهتم بالمرعى وبالعبادات، وأنت تريد خلال يومين تنوير عقولهم؟"(...)
وآخر العنقود الأمني، وبعد شهر من الاستدعاءات اليومية، اختتم المهرجان الأمني، باستدعاء إلى فرع حزب البعث "العربي الاشتراكي" لتكرار الأسئلة نفسها وبالمستوى نفسه من الذكاء والثقافة. وبذلك، فهم يثبتون بأن الحزب، تحوّل ضمن رؤية الأسد الأب والابن "الفكرية" إلى جزء لا يتجزأ من المنظومة الأمنوقراطية المسيطرة.بعد لأيٍ واتصالات، تبيّن لي بأن هذه الهجمة الأمنية متأتية من شكوى قُدّمت الى قصر الأسد، من الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي ناح على قبر حافظ الأسد، فصار ذي الحظوة في حاشيته. وتستند هذه الشكوى على ما نقله للمرحوم البوطي شيخٌ حلبي هو محمد صهيب الشامي، والتي شارك بها جمهوره الغفير في مسجده كمدير للأوقاف. ومن على المنبر، أشار يوم الندوة، وكان جمعة، إلى أن "الصهاينة والشيوعيين والماسونيين والمسيحيين يعقدون ندوة لشتم الإسلام"(...).
حينها تدخّل مفتي حلب الشيخ أحمد حسون، متصلاً بالبوطي ومؤكّدًا له أنه تابع حضوريًا اعمال الندوة ولم يرد فيها شيء مما هرف به الشامي. ولقد أدى تدخله هذا إلى وقف الاستدعاءات الأمنية، علمًا بأنه لم يكن حاضرًا. وفي حادثة أخرى، كنت قد دعوت المفكر الجزائري الراحل محمد أركون لإلقاء محاضرة في حلب سنة 2003، فاتصل بي الشيخ حسون طالبًا أن يكون إلى جانب أركون على المنصة. وبعد أن استغربت طلبه واعتبرته نوعًا من "التدخّل"، أكّد لي، وكأنه قد قرأ صمتي المشكك، بأن التحضيرات جارية في الأوساط الدينية المتشددة، وبإيعازٍ أمني، لشن هجوم جديد عليّ لاستمراري بدعوة المفكرين الإصلاحيين. وهكذا صار، وكانت القاعة مليئة. وبعد نهاية محاضرة أركون، وجّه الحضور أسئلتهم كتابيًا وكانت هذه فكرة حسون. فكرة أنقذتنا من عراك كلامي في أقل تقدير وهو ما تبين لي بعد قراءة بعضها.واليوم، في حين يُهان الشيخ أحمد حسون في بيته خارج إطار القانون وهو يستحق المساءلة عن مواقفه المخزية من قمع السلطة، يُحاوَر الشيخ صهيب الشامي على شاشة تلفزيون العربي ليتحدث عن معارضته للسلطة السابقة (...). أهل حلب يعرفون الشيخين، حيث كليهما شيخ السلطان، ولكن الفوارق بينهما كبيرة جداً. فلم يكن لدى حسون سجنًا في إدارته، ولا أوقافًا يتلاعب بها، ولم يستخدم علاقته بالأمن لزج الناس في السجون. تقول طرفةٌ حلبية أن الشيخ الشامي الذي كاد أن يُحلّل دمي، والذي اشتهر حلبيًا بسلطته وسطوته، عندما حجّ إلى مكة، وبدأ برمي الجمرات، خرج الشيطان صارخًا "حتى أنت يا صهيب".
إنها شهادة للتاريخ ليس إلا.