الشعور بالتفوق الطائفي يتنافى تمامًا مع تحقيق السلم الأهلي، وهو ما أكده الرئيس أحمد الشرع منذ اليوم الأول لبدء عملية ردع العدوان. فحقن الدماء وتسليم السلطة بأقل الخسائر، كان نتيجة طبيعية لسياسة التحرير المتبعة من حلب إلى دمشق. ولو أن سياستها اعتمدت على التفوق الطائفي أو العرقي خلال مسيرتها إلى دمشق عبر القرى والمدن والمناطق المترامية، لكانت سوريا غارقة في دماء أبنائها.ومع ذلك، رغم تكرار الحديث عن السلم الأهلي من قبل الرئيس، فإن هذه الرسائل لم تصل إلى جميع السوريين، سواء من العاملين تحت إمرة الحكومة السورية أو من معارضيها، وبالرغم من محدودية المناطق التي تشهد اشتباكات (تحت مسمى طائفي) بين الجهتين، وتصوير الأمر على أنه نتيجة تصاعد الحس الطائفي لدى بعض الأفراد غير المنضبطين، سواء من العلويين أو السنّة، واختلاف الروايات وأسبابها، إلا أنه يبقى تهديدًا حقيقيًا للسلم الأهلي. ولذا، فإن إبقاء الوضع من دون معالجة جذرية يجعل الطائفية قنبلة مؤقتة قابلة للانفجار في أي لحظة.
إنّ استمرار المناوشات المسلحة في سوريا من دون معالجة حقيقية يعكس خللاً عميقًا في بنية المجتمع والسياسات المتبعة. علاوة على ذلك، فإن إضفاء صبغة طائفية على الاشتباكات ليس مجرد تداعٍ جانبي للصراع، بل هو جزء من الأدوات المستخدمة في النزاع، سواء عن قصد أو بحكم الظروف. لذلك، عندما يُحاسب المجرم بصفته فردًا وليس ممثلًا لطائفته، تنهار أولى حجج الخطاب الطائفي. إذ أن عدم وضع آلية واضحة للمحاسبة وتطبيقها بعدالة، يترك البلاد في حالة من الترقب الدائم لاحتمالية اشتعال فتيل الفتنة، مما يهدد أي جهود لإرساء الاستقرار وبناء مجتمع متماسك.علاوة على ذلك، لا يكمن الحل فقط في ضبط الأفراد المنفلتين أو معاقبة مرتكبي الجرائم أو حتى في التنديد الخطابي بمخاطر الطائفية، بل يتطلب الأمر التزامًا واضحًا بمبادئ العدالة والمساءلة. وعلى وجه الخصوص، فإن من يحسب نفسه على السلطة السورية أو مؤيدًا لها، يجب أن يلتزم بما أقرته الدولة من قوانين بهذا الشأن، وتسليم أمر العدالة إليها، بدلًا من أن يحاول استبدال سلطة قمعية بأخرى تستخدم ذات الأدوات.
ومن ناحية أخرى، فإن النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي قد يبدو عملًا فرديًا، لكنه، في حال تجاوزه حدود الرأي إلى التحريض الطائفي، لا يقل خطورة عن العمل المسلح، بل قد يكون هو الدافع الرئيسي له. على سبيل المثال، فإن الدعوات الشعبوية غير البريئة لاستخدام العنف ضد أي فئة مجتمعية، مثل المطالبات باستخدام الكيماوي ضد (العلويين)، ردًا على استخدام بشار الأسد للكيماوي ضد أهلنا في الغوطة ومناطق أخرى، تمثل خطرًا جسيمًا. إذ تساوي بين سلطة جاءت بانتصار ثورة قدّم الشعب السوري في سبيلها تضحيات جسام، وبين سلطة الأسد التي مارست القمع والقتل. مثل هذه الطروحات المشبوهة تخدم النظام المخلوع وعملاءه، وليست سوى وصفة انتحار بقنبلة طائفية.إضافة إلى ذلك، ومع وجود جيوب خارج سيطرة الدولة، سواء لأسباب قومية أو دينية أو بسبب محاولات التفاوض على تقاسم السلطة، فإن إنكار العامل الخارجي في تأجيج الصراع يعد ضربًا من السذاجة. فمن غير الممكن إغفال دور القوى الإقليمية والدولية في تغذية النزاع، إذ أن بعض الجماعات المتمردة لا تتحرك بدوافع مذهبية أو دينية فقط، بل تتداخل المصالح الخارجية مع الديناميكيات الداخلية، مما يجعل أي جهود محلية من جهة الدولة فقط لحل الأزمة غير كافية، إذ لا بد من وجود إرادة وطنية حقيقية لدى كل الأطراف في الجنوب من فصائل حوران، وفي السويداء من الفصائل الدرزية، وفي الساحل من العلويين، وفي الشمال الشرقي من الأكراد، ترفض أي تدخلات تعزز الانقسام وتُكرّس الفرقة بين أبناء الوطن، ومن دون ذلك فإن يد الحكومة وحدها لن تصفق للسلام المنشود.
ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية السرعة في إعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري على أسس المواطنة المتساوية، بحيث يكون الانتماء الوطني هو الرابط الأساسي بين أبناء المجتمع، وليس الهوية الطائفية أو العرقية. وهذا الأمر يستدعي بالضرورة إصلاحًا سياسيًا جادًا يتمثل في إعلان دستوري واضح وتشكيل حكومة شاملة تضمن مشاركة جميع المكونات من دون تمييز، فضلًا عن إعادة بناء المؤسسات لتكون محايدة وعادلة في تعاملها مع جميع المواطنين.في النهاية، لا تقتصر محاربة الطائفية على مسؤولية جهة واحدة، بل هي مسؤولية المجتمع بأسره. كما أنه لا يمكن القضاء عليها بالقوة فقط، بل يجب أن يكون ذلك من خلال الفكر، والإعلام، والقانون، والتربية. وعندما يشعر جميع المواطنين أن القانون يحميهم، فلن يكونوا بحاجة إلى طوائفهم لحمايتهم. ما يعني أن تقوم المحاسبة على أساس الجريمة لا الهوية. فالطائفية لا تنمو إلا عندما تجد من يروج لها، ولذلك، يجب أن تخضع وسائل الإعلام والخطاب الديني والسياسة لضوابط صارمة تمنع التحريض الطائفي، فالتساهل مع هذا الخطاب يعني أن الفتنة ستجد طريقها إلى العقول التائهة والمستَفزَة.
ولعل خير مثال على ذلك ما حدث في ألمانيا، حيث أدى تجريم الخطاب العنصري بعد الحرب العالمية الثانية إلى تحجيم الفكر النازي ومنع تكرار الكارثة. وعلى غرار ذلك، فإن تحقيق السلم الأهلي في سوريا يتطلب خطوات جريئة على كافة المستويات، تبدأ بالاعتراف بالمشكلة، مرورًا بوضع حلول عملية وعادلة وسريعة، وليس انتهاءً ببناء ثقافة وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات الضيقة.
وحده هذا النهج يمكن أن يضمن مستقبلاً مستقرًا للأجيال القادمة، ويمنع إعادة إنتاج دوامة العنف والانقسام التي يراهن عليها النظام السابق، كما تراهن عليها قوى إقليمية ودولية تسعى لإطالة أمد النزاع لتحقيق مصالحها، وتلك المصالح التي قد تكون المسافة إليها، أقرب إلينا من حبل الوريد.