2025- 03 - 03   |   بحث في الموقع  
logo تطوي عامها الثامن.. “لكي تبقى المهنة ويبقى الصوت”!..غسان ريفي logo جامع السراي.. النفحة الايمانية في وسط بيروت logo لقاء ترامب – زيلنسكي في ميزان الربح والخسارة!.. حسناء سعادة logo مقاربة لبنانية غريبة للقرار 1701: تطمين إسرائيل أم تطمين لبنان؟.. عبدالكافي الصمد logo مؤشرات إستقالة ظريف.. الشرق الأوسط على صفيح ساخن!.. غسان ريفي logo القيادة السورية وامتحان الفتنة: قطع الطريق على إسرائيل.. وإيران logo أوروبا تؤكد دعمها لأوكرانيا.. ودعوات لـ"إعادة تسليح القارة" logo قطر تدين قرار إسرائيل وقف إدخال المساعدات لقطاع غزة
الصوم والمعرفة الكبرى
2025-03-02 09:55:47

قبل ولوج عتبة الصوم الأربعينيّ الكبير بأسبوع واحد، تستوقفنا في الليتورجيا البيزنطيّة الشرقيّة تلاوة ظاهرها لا علاقة له بالصوم: مشهد الدينونة كما يسرده يسوع الجليليّ على مسامع خاصّته في الفصل الخامس والعشرين من إنجيل متّى (31-46). يصوّر هذا النصّ يسوع بوصفه ديّاناً. ويطلق عليه ألقاباً مستمدّةً من العهد القديم أبرزها لقبا "ملك" و"ابن الإنسان". أمّا فحوى النصّ، فيكمن في أنّ المسيح الملك سيسأل البشر في اليوم الأخير عمّا فعلوه في أثناء حياتهم بالضعفاء، بالجوعى والعطاش والمسجونين والغرباء: "لأنّي جعتُ فأطعمتموني، وعطشتُ فسقيتموني، وكنت غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فزرتموني، وسجيناً فعدتموني. فيجيبه الأبرار: يا ربّ، متى رأيناك جوعاناً فأطعمناك، أو عطشاناً فسقيناك، ومتى رأيناك غريباً فآويناك، أو عرياناً فكسوناك، ومتى رأيناك مريضاً أو سجيناً فزرناك؟ فيجيبهم الملك: الحقّ أقول لكم: في كلّ مرّة عملتم هذا لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي عملتموه". يتكرّر السيناريو ذاته مع "الأشرار". فهؤلاء أبصروا الملك وابن الإنسان جائعاً وغريباً ومريضاً ومسجوناً، لكنّهم لم يعيروه اهتماماً، إذ لم يتكبّدوا مشقّة الاعتناء بإخوته الصغار. لفظ "الصغار"، هنا، لا يحيل على السنّ، بل على الضعف. الإخوة الصغار هم المستضعفون في الأرض، أولئك الذين ليس لديهم من يتّكلون عليه سوى الله.لماذا يطلق النصّ على يسوع لقب "الملك"؟ الملكيّة بحسب منظور العهد القديم حالة استثنائيّة قبلها الله مرغَماً، إذ لا ملك سواه في الأصل، وذلك رغبةً منه في أن يكون ثمّة مّن يهتمّ بالضعفاء والمهمّشين. لكنّ ملوك بني إسرائيل، بحسب أنبياء التوراة، أخفقوا في الاضطلاع بهذه المهمّة لمّا أمعنوا في شهوة السلطة، وتحالفوا مع الأغنياء وأراخنة القوم، معرضين عن الفقير واليتيم والأرملة. آنذاك أطلق الأنبياء رؤيةً من خارج الصندوق، إذ لا نعثر على مثيل لها في حضارات الشرق القديم. قوام هذه الرؤية أنّ الله سيرسل ملكاً لا كالملوك يحكم بالعدل للمظلومين، ويعضد المساكين، ويواسي منكسري القلوب، لكونه يشبههم فهو مثلهم فقير ووديع ومتواضع القلب؛ حتّى إنّ النبيّ الذي يسمّيه العارفون "إشعياء الثاني"، وهو شخصيّة مجهولة كتبت عدداً من القصائد المذهلة إبّان النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد، رأى أنّ هذا الذي سيحقّق الله بواسطته مقاصده الأخيرة سيكون كسيراً ومتألّماً ومسحوقاً.نصّ الدينونة في إنجيل متّى يضفي على هذه الرؤية النبويّة طابعاً عالميّاً. فالذين يمثلون أمام الديّان لا ينتسبون إلى بني إسرائيل حصراً، بل هم "الشعوب جميعها". هذا المفهوم العالميّ يكرّسه اللقب الثاني الذي يستخدمه النصّ للمسيح، أي "ابن الإنسان". طبعاً، لهذا اللقب إحالات على العهد القديم أيضاً. لكنّه يشير في الآراميّة (وشقيقتها العربيّة) إلى الإنسان بالمطلق، أيّ إنسان، كمثل قولنا في العامّيّة "بني آدم". الملك، إذاً، يوحّد نفسه بالإنسان الفرد كائناً ما كانت هويّته. هذا يأخذنا إلى ذروة أخرى من ذرى العهد القديم: الفصل الأوّل من كتاب التكوين، حيث يخلق الله الإنسان، ذكراً وأنثى، على صورته كمثاله. إدراك مرمى هذا النصّ يقتضي التعريج على الذهنيّة المهيمنة على حضارات الشرق القديم. فصورة الله، أي ظلّه على الأرض، في وادي النيل وبلاد الرافدين كانت الفرعون أو الملك من دون سواه. بيد أنّ نصّ التوراة يفكّك هذا المفهوم ذاهباً إلى أنّ الإنسان، في طبيعته البيولوجيّة الصرف، صورة الله وشريكه في "السلطة" على الخليقة، لكونه مسؤولاً عن رعايتها والاعتناء بها. ومن ثمّ، يريد الله للناس جميعاً أن يكونوا ملوكاً، وأن يسلكوا كملوك. جوهر هذا السلوك أن يحقّقوا ما فشل ملوك بني إسرائيل في تحقيقه، أي أن يقيموا العدل. فيقضوا للمظلوم، وينتصروا للضعيف، ويضيفوا المرذول والغريب.مثل الدينونة الذي يسرده يسوع على مسامع مريديه ليس غريباً عن التراث الإسلاميّ، إذ ينقل لنا صحيح مسلم عن نبيّ المسلمين ما يأتي: "الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني، قال يا ربّ كيف أعودك وأنت ربّ العالمين، قال أما علمتَ أنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمتَ أنّك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال يا ربّ وكيف أطعمك وأنت ربّ العالمين، قال أما علمت أنّه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال يا ربّ كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين، قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنّك لو سقيته وجدت ذلك عندي". نحن، إذاً، أمام الصورة ذاتها والرؤية ذاتها، لكن بقالب أدبيّ مختلف. أمّا كون الله، لا المسيح، هو مَن يشكّل مركز الرواية الإسلاميّة، فيفضي إلى تكثيف فكرة تماهي الله بالإنسان وإذكاء إيحائيّتها.ظاهر هذا التراث الأدبيّ لا يرتبط بالصوم. لكنّ موقع تلاوة نصّ الدينونة في الليتورجيا البيزنطيّة قبيل الأربعينيّة التي تسبق الفصح يأخذنا إلى جوهر الصوم ومعناه الأخير. فالقضيّة برمّتها ليست طعاماً وشراباً، بل تقويم للنفس عبر ترويض الجسد. وهذا التقويم له عنوان واحد: أن يصير الضعيف والكسير والغريب والمسجون طريقاً إلى الله على قدر ما يتماهى الله به ويستقرّ فيه. في سنة يتقاطع فيها صوم المسيحيّين الكبير وصوم المسلمين الرمضانيّ، ربّما تكون هذه المعرفة هي أسمى ما يأخذه الصوّامون معهم في مسيرة الإمساك عن الطعام والشراب.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top