في تقديمه لكتاب الفنانة فيروز كراوية عن الأغنية والصدارة، يقول الناقد اللبناني فادي العبد الله: "وهل أبقى من أغنية علامة على عصر، ومن ثم دليلا إليه وعليه". يشيد العبد الله بالكتاب ومنهجه الجديد الذي لا يتوقف عند حدود إحاطة قرائه بالأغنية المصرية ومسار تطورها وتبدلها، بل بالمجتمع الذي انتجها ولحظة انتاجها، متخذاً من الظروف الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية التي صاحبت ظهور الأغنيات علامة على فهم المجتمع والإشارة إلى "مسارات القمع التي يفرضها ومسارب الفكاك منها أو التفاوض معها". وهو المنهج نفسه الذي يتبعه الباحث والمؤرخ الأميركي، آندرو سايمون، في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية مؤخراً بعنوان "إعلام الجماهير، ثقافة الكاسيت في مصر". إلا أن سايمون لا يتتبع الأغنية، بل الوسيط الذي ساهم في إذاعتها وانتشارها وتبدلها، والظروف المحيطة بهذا الانتشار وأسبابه وما أدى إليه. يلجأ سايمون في دراسته للمشهد الصوتي في مصر لما أسماه الأرشيف البديل أو "أرشيف الظل"؛ صفحات الفيسبوك، والأفلام، والكتب الإرشادية، والمقابلات الشخصية، وتسجيلات الكاسيت، وأغلفتها، والأسواق الشعبية، وحتى تجار الروبابيكيا، ليس فقط لرغبته في تجديد مصادر بحثه، ولكن لصعوبة التعامل مع الأرشيف الرسمي في مصر، يقول: "كانت الوثائق المفقودة، والدوريات الخاضعة للرقابة، والقيود المفروضة على التصاريح البحثية، وأرشيفات الدولة المغلقة، من العقبات التي لا تعد ولا تحصى التي كان على مواجهتها". إلا أن تلك المصادر غير الرسمية -وفي القلب منها الصحافة التابعة للدولة- منحته صورة أكثر صدقاً والتصاقاً بالواقع، إذ أشارت تقارير الشرطة التي نشرتها صفحات الحوادث بكثافة في "روزاليوسف" و"آخر ساعة" على سبيل المثال، بطريقة غير مقصودة، إلى وجود سوق سوداء مزدهرة لتجارة الكاسيت في مصر، ثم الأشرطة بالتالي بعد زيادة عدد شركات الإنتاج، كما كشف الانتقاد الرسمي لمحتوى الأشرطة الذي اعتبر "مبتذلاً" عن خلاف كبير حول من لديه الحق في خلق الثقافة وإنتاج المحتوى، وهي النقطة الأساسية التي دار حولها الصراع المتعلق بالكاسيت وسنوات رواجه في مصر، خلال فترة السبعينيات والثمانينيات التي يبحثها الكتاب.
يلجأ سايمون في دراسته للمشهد الصوتي في مصر لما أسماه الأرشيف البديلفإذا كانت الفصول الأولى من الكتاب أو الوجه الأول من الشريط كما يقول المؤلف، قد تتبعت مراحل دخول الجهاز إلى مصر في السبعينيات واعتباره من أساسيات "المنزل الحديث"، ثم السيرة الجنائية التي لحقت ذلك باعتباره من السلع المهربة ثمّ المنتجة داخل البلاد بعد ذلك، مع ما يكشفه التتبع الدقيق من مشاهد واسعة لسياسة الانفتاح التي فرضها السادات، فإن الفصول التالية أو الوجه الثاني من الشريط، تتتبع التأثيرات الأهم التي لاحقت دخول الكاسيت وانتشاره في مصر، وبالأساس نمو شركات الإنتاج وتفكيك مركزية وسائل الإعلام الرسمية لأول مرة، عقب التحول من الاستهلاك الجماهيري إلى الإنتاج الجماهيري، وتحول المواطن إلى "منتج للثقافة" بدلا من كونه مستهلكاً فقط، وما لاحق ذلك من انتقادات يرى المؤلف أنها لم تكن مجرد اهتمام بحراسة الذوق العام أو بالحساسيات الجمالية، "بل كانت صراعا حول ما يشكل الثقافة المصرية، ومن كان له الحق في إنشائها خلال فترة التغيير الهائل".فالأغنية والموسيقى كانا عناصر أساسية لا غنى عنها في محاولات تكوين "مصريين مستنيرين" خلال مرحلة ما بعد الهزيمة، وبالتأكيد الأغاني "الهابطة" لم يكن لها أي دور في خلق هذا النموذج، لكن على من تقع مسؤولية التصنيف والاختيار؟ يقول سايمون إن المهمّة لم تقع فقط على كاهل الموظفين في الثقافة الجماهيرية، كأحد أزرع وزارة الثقافة أو وزارة الإرشاد القومي وقتها، بل أيضا على الإذاعة التي أعطت الأولوية لتشكيل "مواطنين نموذجيين"، ولضمان وصول "الأصوات الصحيحة" فقط إلى آذان الجمهور اعتمد مسؤولو الراديو على نظام يقوم على مجموعة من الضوابط والتوازنات: إذ تكونت لجنتان للفحص، الأولى تعرف باسم لجنة النصوص، وهي التي تقرر صلاحية الأغاني المقدمة للبث، إذا وافق أعضاؤها على الأغنية فإنها تدخل مرحلة الإنتاج، والثانية، لجنة الاستماع ومهمتها النظر فيما إذا كانت الأغنية المسجلة فعلا صالحة للبث، وإذا وافق الفنانون والمذيعون ومهندسو الصوت في اللجنة على أغنية ما، يترك الأمر لتقدير المحطات لتشغيلها.بحث المؤلف في أعمال تلك اللجان، فوجد أن 4 محطات اعترفت بأنها تصنف المطربين، وتخصص وقت البث وفقا لمرتبتهم، حيث اعتبرت إذاعة "الشرق الأوسط" على سبيل المثال، أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ مطربين "درجة أولى"، تذاع أغانيهم مرة واحدة يوميا، في حين أن فناني "الدرجة الثانية" مثل فريد الأطرش ونجاة وفايزة أحمد ووردة وشادية تذاع أربع مرات في الأسبوع، أما "الدرجة الثالثة" التي تضم صباح وسعاد محمد ومها صبري فتذاع بين الحين والآخر، "أما المطربون الذين اعتبرتهم الإذاعة مبتذلين فهم يقعون عموما خارج هذه الرتب تماما".
اضطر عدوية إلى استخدام الأشرطة كوسيلة للوصول إلى جمهورههذه الشريحة الأخيرة، ممن لم يحالفهم الحظ في الحصول على موافقة اللجنة، اضطروا إلى إيجاد طرق أخرى لإيصال أصواتهم إلى الجمهور، وعلى رأس هؤلاء كان أحمد عدوية. رغم كون عدوية المعبر الأمثل عن التغييرات التي طالت التركيبة السكانية للأحياء الشعبية، والطبقات الصاعدة الجديدة في تلك الفترة، إذ استطاع بصوته الريفي الاقتراب من تلك الشرائح والتعبير عن أزمتها، إلا أن السلطة الرسمية لفظته واتهمته بالسوقية والابتذال ورفضت الفن "الشعبي" الذي يقدمه. يقول المؤلف إن عدوية اضطر إلى استخدام الأشرطة كوسيلة للوصول إلى جمهوره، بعد أن رفضت الإذاعة بث أغانيه باعتبارها مواد "مبتذلة". وهي الحالة الأكثر وضوحا لمسألة حراسة البوابة الإعلامية في تلك الفترة، أو صراع المواقع بين بورجوازية صغيرة ريفية ورأسمالية تقليدية على حد تعبير المؤرخ صلاح عيسى، إذ عد عدوية كـ"أثر جانبي كريه لهزيمة مصر في حرب 1967 وانفتاح السادات الاقتصادي الذي قيل إنه مكن الأميين ثقافياً".اللافت هو النتيجة العكسية للتجاهل الرسمي، فبمرور الوقت كانت أشرطة عدوية تكتسب زخماً كبيرا وتصل إلى أرقام توزيع غير مسبوقة، أرقام دفعت كبار الأسماء الفنية للتعامل معه، حيث عمل مع: محمد الموجي، وكمال الطويل، ومنير مراد، وسيد مكاوي، وكان الشعراء يدركون قوته التسويقية الكبيرة "يكفي أن نأخذ في الاعتبار كيف أن أحد كتاب الأغاني كتب أغنية لمحرم فؤاد ثم أعطى النص نفسه لعدوية قبل أن يغنيه فؤاد؛ لأن أي شريط يطلقه عدوية كان يباع منه 40 ألف نسخة".يتتبع المؤلف قصة الصعود المذهل لعدوية، كذلك التحول الكبير الذي صاحب استقبال أعماله وكيف تحول من أحد "نجوم الكاسيت" الذين تصدح أصواتهم "السوقية" وأغانيهم "الهابطة" في المقاهي والحواري وكاسيتات السيارات، إلى أحد النجوم "المحترمين"، وكيف حاز اعتراف من كانوا ينكرونه كمحمد عبد الوهاب، بل بإعجاب كبار الكتاب والمثقفين كنجيب محفوظ الذي أقر بـ"صوته القوي المشحون بالشجن". يخلص المؤلف من تجربة عدوية إلى أن تكنولوجيا الكاسيت لم تخلق تأثيرها على الثقافة المصرية من حيث تغيير الذوق الموسيقي وتغير مفاهيم كالسوقية والابتذال فحسب، بل قامت أيضا بتغيير طريقة تداول المحتوى "فالأول مرة في تاريخ مصر، مكنت أشرطة الكاسيت أي شخص من أن يصبح موزعا ثقافيا"، بالتالي وسعت الأشرطة بشكل جذري محيط الإنتاج الثقافي وأثرت المشهد الصوتي في مصر بشكل لا نهائي.النموذج الثاني الذي استفاد من ثورة الكاسيت في مصر، هو الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وهو نموذج أكثر قسوة إذ لم يعان نجم وإمام من الاقصاء الرسمي فقط، بل تعرضا للمطاردة والتضييق والاعتقال، وفي ظل استمرار وسائل الإعلام التابعة للدولة في تجاهل أعمالهما، مكنت أشرطة الكاسيت الثنائي من الوصول إلى جمهور واسع جدا داخل مصر، ثم خارجها بعد ذلك، رغم أنه طوال حكم السادات لم تكن أشرطة إمام متوفرة في المتاجر والأكشاك ولا في الشوارع، بل كانت الجامعات، والمظاهرات، وتجمعات الفنانين هي السبيل الوحيد لتسجيل أغانيه وتبادلها، وهي التي منحت المغني قدرا من الدوام.
سخّر الشيخ إمام تكنولوجيا الأشرطة الصوتية لكتابة تاريخ مصرلكن الأهم في تجربة الشيخ إمام مع أشرطة الكاسيت، كما يقول المؤلف، أنها مكنت الأفراد "ليس فقط من انتقاد الأنظمة الحاكمة، ولكن كذلك تفكيك القصص التي ترويها بصوت عال"، يشير لأغنيات كـ"نيكسون بابا"، و"رجعوا التلامذة"، و"بقرة حاحا" وغيرها ليقول إن إمام سخر تكنولوجيا الأشرطة الصوتية لكتابة تاريخ مصر من جديد أمام جمهور عريض؛ مما يقوض روايات الدولة المهيمنة عن الأحداث المعاصرة في أكثر من مناسبة "جسد إمام سياسات معارضة وعبر عنها وشجعها، ومن خلال التعبير عن الناس العاديين، والسخرية من القادة الأجانب، وانتقاد حكام مصر، واجه السلطات السياسية والقصص التي روتها". بما يعني أن المنتجات الثقافية الشعبية المنتجة من قبل أفراد، لم تعكس فقط التطورات التاريخية، أو الطرح الرسمي في مقابل الرؤية الشعبية، بل لعبت دورا نشطا في تشكيل التاريخ ومواقع الأفراد داخله، وتعد مدخلا جديدا لإعادة قراءته.(*) آندرو سايمون: مؤرخ أميركي في مجال الإعلام والثقافة الشعبية والشرق الأوسط. يشغل حاليا منصب محاضر أول في جامعة دارتموث. صدر كتابه "إعلام الجماهير ثقافة الكاسيت في مصر" عن دار الشروق، ترجمة بدر الرفاعي.