يقول صفيُّ الدين الحلي في بيتٍ من بيوت قصائد غزله: "إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ أو كنت تدري، فالمصيبة أعظم"، ويا عَظُمَ مصيبة فولودومير زيلينسكي ومعه أوروبا، لماذا؟
دونالد ترامب. هذا الاسم الذي يتجاوز مجرد رئيس للولايات المتحدة الأميركية إذ يعتقد الرجل في قرارة نفسه أنه إمبراطور العالم المُتحارب هذا. يطل رجل العقارات على زعماء العالم بفوقية لا يحاول حتى سترها.
يهينُ ترامب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ويشدّ يده نحوه بقوة في لغة جسد هي أقرب ما تكون للتعبير عن كلمة واحدة تختصر الكثير: أنا!!
يتبعُ ماكرون، رئيسُ الوزراء البريطاني كير ستارمر، وهذا توجه إلى واشنطن وهو يدرك ان مملكته صارت يتيماً ترعاه بلاد العم سام منذ الحرب العالمية الثانية، يسير خلفها في التيار بعيداً عن أوروبا فيُهان هو الآخر بلغة الجسد عينها وبالتعبير عينه.
جولةُ أوروبا الجريحة تنتهي بزيارة لزيلينسكي، رأس حربة القارة العجوز في مواجهة الدب الروسي. لا يلجأ ترامب إلى لغة الجسد بل يُقحم نائبه جي دي فانس في الاجتماع العلني ليستهل الإهانة العلنية ثم يتبعه ترامب مقاطعاَ ردّ زيلينسكي على فانس فيزيد من تحجيمه وتوبيخه: "أنت لم تحترم هذه البلاد، ولا يحق لك أن تملي عليها ماذا سيحصل في مستقبلها ولست في موقع يسمح لك بهذا".
يُصدم زيلينسكي المكلوم وهو يعلم أن إهانات ترامب قوية بحجم قوّة صواريخه ودباباته التي لا يستطيع الرئيس الأوكراني التخلي عنها في حربه مع روسيا.
أيّ سياسة هذه؟ هي أكثر من دبلوماسية القوّة، هي استفاقة قد تكون متأخرة لأوروبا والعالم المخدوع بالدور الأميركي في ردّهات الأرض.
حقيقة أميركا هذه يعرفها تيار واحد فقط لا غير: من حارب أميركا طوال هذه السنين. يعرف هذا المحور جيداً بطش الولايات المتحدة ولغة استعلائها. لم يرتعب ترامب من "حرب عالمية ثالثة" عندما حثّ بنيامين نتنياهو على الاستمرار في حربه على الفلسطينيين في غزة وهم أقل حولاً وأضعف قوة وأوهن تسليحاً من روسيا العملاقة، لأن ترمب يؤمن أن دولة الاحتلال تخوض حرباً بالنيابة عن واشنطن ضد "إرهاب الأرض" كما يؤمن.
في مقابل التيار الذي واجه أميركا بما استطاع إلى المواجهة سبيلا، ولم يزل، تيارٌ أوروبي وعربي صدّق لسنوات أن الدبلوماسية الناعمة خالدة، وأن الولايات المتحدة "حليف" ينظر إلى المصالح "المشتركة" والهموم "المشتركة" وهذا يقبع اليوم في صدمة من مشهد رآه على شاشات الهواتف والتلفاز: ترامب يوبّخ "حليفاً" له كما يوبخ الأستاذ تلميذه الكسول.
في أيقونة عمل الفيلسوف الإيطالي نيكولا ميكيافيلي "الأمير"، عبارة تحكي الكثير: "ليس هناك أضعف من الإنسان الذي يعتمد في قوته على قوة الآخرين". حاول ميكيافيلي ان يستعيد منصب "أمين الجمهورية" بإهداء كتاب إلى دوق اوربينو يحكي عن القوّة في الحكم.
تصفُ عبارة ميكيافيلي عرب اليوم إلى حدٍّ بعيد. جلسة زيلينسكي مع ترامب أشبه ما تكون بتجسيد واقعي لخيال عاش في أذهن كثير من حكام العرب عند تفكيرهم بإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة أو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لمناطق في لبنان وسوريا والضفة الغربية من خلال "دبلوماسية أميركا". ليس هناك أضعف من إنسان يعتمد في حريته على سجانه، والرهان العربي على أميركا "الحليفة" يجب أن ينتهي وإلّا سيجلس الجميع على نفس الكرسي الذي جلس عليه زيلينسكي في البيت الأبيض، ولعل التوبيخ سيكون أعنف وأثقل.
إن جنون المظلوم خير من عقلانية الظالم، وبندقية المقاومة أدركت منذ دهر بعيد أن كرسي الضيافة في البيت الأبيض، لا يحقق ما تحققه سواعد أصحاب الأرض، لا بل إن الساعد القوي الصابر كفيل بأن يأتي بأميركا إليك للتفاوض على كرسيك الذي يصون كرامتك.