في خضمّ الأزمة السّياسيّة والإنسانيّة التي تعصف بلبنان وسوريا على حدٍّ سواء، برز ملفّ تسليم المعتقلين السّوريّين في السّجون اللّبنانيّة، لا سيّما أولئك الّذين جرى توقيفهم على خلفيّة "مناصرة الثورة السّوريّة" أو "الانتماء إلى تنظيماتٍ إرهابيّةٍ"، كـ"داعش" وجبهة النّصرة، بوصفه قضيّةً مُلحّةً تحتلّ مكانةً مركزيّةً في التّجاذبات الدبلوماسيّة والقضائيّة بين بيروت ودمشق. ويتفاقم هذا الملفّ المعقّد بعدما عادت الحكومة السّوريّة إلى مخاطبة نظيرتها اللّبنانيّة رسميًّا، مطالبةً بتسليم أسماء محدّدة من الموقوفين السّوريّين، في خطوةٍ تعكس حجم التغيير الذي طرأ على العلاقات الرّسميّة بين البلدين، وتسلّط الضّوء على واقعٍ قانونيٍّ غاية في الدقّة والتعقيد.تعليق الإضراب: بارقة أملٍ أم هدنةٌ؟خلال الأسابيع الماضية، دخل عددٌ من معتقلي الرّأي السّوريّين في السّجون اللّبنانيّة، وتحديدًا في سجن روميّة، في إضرابٍ مفتوحٍ عن الطّعام دام ثمانية عشر يومًا. جاء هذا التحرّك احتجاجًا على ما اعتبروه "مماطلةً" و"غيابًا للحلول الجذريّة" لملفّهم، وانقطاع الأفق بشأن تسويةٍ تسمح لهم بالعودة إلى ديارهم. وقد أعلن المعتقلون تعليق إضرابهم عقب زيارةٍ رسميّةٍ قام بها وفدٌ من سفارة الجمهورية العربية السّوريّة إلى سجن روميّة، التقى خلالها عددًا من السّجناء المضربين، وأبلغهم بأنّ الحكومة السّوريّة تتابع مع الجهات اللّبنانيّة المعنيّة سبل معالجة ملفّهم.
وفي بيانٍ رسميٍّ صدر عن هؤلاء المعتقلين، جرى التّشديد على أنّ تعليق الإضراب لا يعني قطّ التخلّي عن المطلب الأساس، والمتمثّل في العودة الآمنة والكريمة إلى سوريا، بل يمثّل هدنةً مؤقتةً انتظارًا لمعرفة مدى جدّية الوعود المقدَّمة لهم. كما أكّد البيان أنّ استعداد المعتقلين لاستئناف الإضراب لا يزال قائمًا في حال عدم التزام الطّرفين السوريّ واللّبنانيّ بالتعهّدات المقطوعة.
ووجّه المعتقلون في ختام البيان شكرًا خاصًّا لكلّ من تضامن معهم وساهم في تسليط الضّوء على قضيّتهم، وفي مقدّم هؤلاء فريق حملة "#أنقذوا_المعتقلين_السوريين_في_لبنان"، فضلًا عن توجيه شكرٍ خاصٍّ لإدارة سجن روميّة على ما وُصف بـ"التعامل الإنسانيّ" معهم طوال فترة الإضراب، ولا سيّما للعقيد نزيه صلاح. وفي السّياق نفسه، كشفت مصادرٌ أنّ وفدًا رفيع المستوى من السفارة السورية قد اجتمع بستّةٍ من ممثّلي السجناء السوريين في روميّة، ممّا يشير إلى أهميّة هذا الملف بالنسبة إلى دمشق. جذور الأزمة وتعقيداتها القانونيّةيرى المحامي ومدير مركز "سيدار" للدّراسات القانونيّة، محمّد صبلوح، في حديثه إلى "المدن"، إنّ جذور هذه القضيّة تعود إلى سنوات الحرب السّوريّة الأولى، حينما لجأ آلاف السّوريّين إلى لبنان بحثًا عن ملاذٍ آمن، أو وجدوا أنفسهم في قبضة الأجهزة الأمنيّة اللّبنانيّة لأسبابٍ متعلّقةٍ بنشاطهم المعارض للنّظام السّوريّ، سواء في إطار الاحتجاجات السّلميّة أو في إطار مجموعاتٍ مسلّحةٍ تشكّلت في خضمّ الاقتتال الدّاخليّ السّوريّ. وانطلاقًا من هذا الواقع، تفاقمت الأزمة مع تسرّب أنباءٍ عن إعداد الحكومة السّوريّة قوائم بأسماء المعتقلين في لبنان، تحديدًا السّجناء السياسيّين وسجناء الرّأي، إضافةً إلى بعض الأفراد الذين صدرت بحقّهم أحكامٌ جنائيّة. ويلفت صبلوح إلى أنّ العدد الإجماليّ للسّجناء من حملة الجنسيّة السّوريّة في لبنان يُقدَّر بنحو 1700 إلى 1750 سجينًا، غالبيّتهم موقوفون على خلفيّاتٍ جزائيّةٍ أو جنائيّةٍ بلا محاكماتٍ ناجزة، في حين يبلغ عدد سجناء الرّأي نحو 200 سجين فقط.
ويضيف صبلوح أنّ ثمة معلوماتٍ مؤكّدة حول نية السّلطات السّوريّة إنشاء مراكزٍ مؤقتةٍ داخل سوريا لاستقبال هؤلاء المساجين، بغية استكمال محاكماتهم، فيما يُفرَج عن معتقلي الرّأي ضمن ترتيباتٍ خاصّة وكجزءٍ من عملية "العدالة الانتقاليّة"، بيد أنّ القلق لا يزال يساور الكثيرين حيال الضّمانات الفعليّة حول وضع المحكامين بجرائم جنائيّة أمام القانون في سوريا، مؤكّدًا أن كل من هو مُعتقل بجرمٍ مُثبت سيتمّ استكمال محاكمته."إرهاب"ٌ أم "تعاطف"ٌ؟من أبرز الإشكاليّات الّتي تثيرها هذه القضيّة، وفق صبلوح، هي ازدواجيّة المعايير في الخطاب الرّسميّ اللّبنانيّ تجاه الملفّ السّوريّ. فمن جهة، لطالما برّرت الجهات الأمنيّة والقضائيّة في لبنان اعتقال العديد من السّوريّين بتهمٍ تتعلّق بـ"الإرهاب" و"تهديد الأمن القومي"، مستندةً في بعض الأحيان إلى صِلاتٍ مفترضةٍ تربط المعتقلين بفصائل مسلّحةٍ سوريّة. ومن جهةٍ أخرى، بدأ لبنان في المرحلة الأخيرة "تطبيع" علاقاته الدبلوماسيّة مع دمشق، متجاوزًا خطاب "العداء" السّياسيّ السابق، ما يثير تساؤلاتٍ عدّة حول المعايير التي جرى الاستناد إليها لاعتقال هؤلاء أو للإبقاء عليهم في السّجون بلا محاكمةٍ عادلةٍ أو طويلة الأمد.
ويضيف صبلوح أنّ لبنان يجد نفسه اليوم في موقفٍ حَرِج، خصوصًا أنّه من جانبٍ يرفض تصنيف بعض المجموعات على أنّها "إرهابيّةٌ" تحتضنها بيئاتٌ لبنانيّةٌ أو تجهّزها دولٌ إقليميّةٌ مثل حزب الله، فيما يتعاون في الوقت نفسه مع الحكومة السوريّة الجديدة، لتنسيق الملفّ الأمنيّ.تحرّكاتٌ ميدانيّةٌلم تقتصر الجهود المبذولة على التحرّكات الدّاخليّة ضمن أروقة السّجون. فقد شهدت الأسابيع الأخيرة سلسلةً من النّشاطات الميدانيّة أبرزها الاعتصام الّذي نظّمته "لجنة العفو العام" أمام سجن روميّة في أحد أيّام الجمعة، حيث اجتمع الأهالي والمتضامنون لأداء صلاة الجمعة، رافعين شعاراتٍ تطالب بالإفراج عن السّجناء السّوريّين وتمكينهم من العودة إلى وطنهم.
وفي هذا السّياق تُشير النّاشطة الحقوقيّة والمتحدّثة باسم أهالي السّجناء، رائدة الصّلح لـ"المدن" إلى أنّ الحراك يهدف بالدرجة الأولى إلى دفع الدّولتيْن اللّبنانيّة والسّوريّة لاتّخاذ خطواتٍ ملموسةٍ على طريق إنهاء ملفّ التوقيفات والطّلبات القديمة لإقرار "عفوٍ عامٍّ" يشمل اللبنانيّين والسّوريّين على حدٍّ سواء. وترى الصّلح أنّ العفو العام لا يزال "المخرج الأسلم" في ظلّ تكدّس الملفّات أمام القضاء وغياب أيّ رؤيةٍ واضحةٍ لدى الإدارة اللّبنانيّة لمعالجة معضلة السّجون المكتظّة، قائلةً: "يمثّل العفو العام في النّظام اللّبنانيّ مادّةً سجاليّةً بامتياز، فقد طُرِحت الفكرة مرارًا خلال الحكومات المتعاقبة، لكنها اصطدمت بحساباتٍ طائفيّةٍ وسياسيّةٍ معقّدةٍ حالت دون التوصّل إلى نصٍّ نهائيٍّ يلبّي المتطلّبات القانونيّة والإنسانيّة". يرى المطالبون بالعفو العام أنّه يشكّل حلًّا جذريًّا لمعضلاتٍ متراكمةٍ كالاكتظاظ في السّجون، وتعطّل جلسات المحاكمات، وغياب أيّ أفقٍ واقعيٍّ لإنهاء الآلاف من الملفّات الجنائيّة العالقة منذ سنوات.
"بالمقابل، تُثار مخاوفٌ جادّةٌ حيال إمكانيّة تضمين هذا العفو جرائم كبيرةٍ، على غرار القضايا المتّصلة بانفجار مرفأ بيروت أو عمليّات فسادٍ ماليٍّ ضخمةٍ. وفي حين يشدّد المعتصمون أمام سجن روميّة على ضرورة استثناء المتورّطين في جرائم "خطيرةٍ" ذات أبعادٍ أمنيةٍ أو إنسانيّةٍ كبيرة، كحال تفجير المرفأ، يؤكّدون في الوقت عينه أنّ شريحةً واسعةً من الموقوفين لا تزال تقضي سنواتٍ طويلةً في السّجن من دون محاكماتٍ عادلةٍ أو لعدم القدرة على توكيل محامين، الأمر الّذي يُثير تساؤلاتٍ حيال دستوريّة استمرار الاحتجاز الاحتياطيّ لهذه المدّة الزمنيّة"، تُضيف الصلح.المعضلة القضائيّة: بطء المحاكماتتشتكي المنظّمات الحقوقيّة في لبنان، ومعها العديد من المحامين والمسؤولين القضائيّين، من بطء آليّات التّقاضي وتعذّر السّير قدمًا في الملفّات؛ إذ إنّ مشكلة عدم سوق السّجناء إلى المحاكم تفاقمت في السنوات الماضية، بسبب أزمة النّقل وسوء التّنسيق بين الأجهزة الأمنيّة والقصور العدليّة. وفوق ذلك، تشير رائدة الصّلح إلى أنّ أحد أبرز أسباب ضياع الملفّات يتمثّل في غياب المكننة عن القصور العدليّة، ما يضطرّ الأهالي للتنقّل بين الدوائر لسؤال الموظّفين عن ملفّات أبنائهم، وقد تمرّ شهورٌ طويلةٌ قبل تحديد مكان هذه الملفّات. ويُعدّ هذا الواقع انعكاسًا لضعف الموارد الماليّة والبشريّة في المؤسّسات القضائيّة، وتعطيل جزءٍ كبيرٍ من عملها بسبب الإضرابات أو انقطاع الكهرباء وسوء صيانة المباني. ويعرب قضاةٌ ومحامون كُثر عن ضرورة أن يكون إصلاح السّجون والقضاء في صدارة أولويّات أيّ حكومةٍ لبنانيّةٍ جديدة، نظرًا إلى أنّ التّراخي المزمن في هذا القطاع يهدّد مبادئ العدالة ويرفع منسوب الاحتقان الاجتماعيّ.
"لا تقتصر أوجه المعاناة على غياب المحاكمات السّرّيعة، فقد أدّى الانهيار الاقتصاديّ في لبنان إلى تفاقم الوضع الإنسانيّ والصحيّ في السّجون إلى حدودٍ تنذر بكارثةٍ حقوقيّة. تشكو الجمعيّات الإنسانيّة من نقصٍ حادٍّ في الأدوية والمستلزمات الطبيّة، وارتفاعٍ حادٍّ في أسعار المأكولات المتوافرة داخل الحوانيت (الـ"كانتينات")، الأمر الّذي يضع الأهالي في مواجهةٍ ماليّةٍ تفوق قدراتهم" تُعلق رائدة الصلح.
وتُضيف: "تشكّل السّجون في لبنان بيئةً خصبةً لانتشار الأمراض والأوبئة، في ظلّ ضعف عمليّات التّعقيم والتّجهيز الطبيّ المحدود. وقد أشارت تقاريرٌ حديثةٌ إلى ظهور بعض الأمراض الوبائيّة داخل السّجون نتيجة الاكتظاظ وقلّة التّهويّة وندرة مواد التّنظيف. ويزداد الوضع صعوبةً خلال شهر رمضان، إذ تكتفي إدارة السّجن في أحيانٍ كثيرةٍ بمخصّصاتٍ غذائيّةٍ محدودةٍ تفتقر إلى المقوّمات الأساسيّة لتأمين وجبة إفطارٍ كريمةٍ للمحتجزين. ومع تكرار انقطاع الكهرباء، يصبح استخدام السخّانات الكهربائيّة أمرًا شبه مستحيلٍ لتسخين المياه أو لتسخين الطّعام، ما يخلق أجواءً ضاغطةً في أوقات الإفطار".الآفاق المستقبليّة ويرى مراقبون وحقوقيون أن الحلّول المطروحة على الطاولة، أمام السّلطتين اللّبنانيّة والسّوريّة، هي كما يلي:
- الإفراج المشروط: قد تلجأ السّلطات اللّبنانيّة، بالتنسيق مع السّلطات السّوريّة، إلى منح السّجناء الرّاغبين بالعودة تسويةً قانونيّةً تقضي بتسليمهم لدمشق وفق اتّفاقاتٍ أمنيّةٍ ثنائيّة. إلا أنّ نجاح هذا السيناريو يتطلّب ضماناتٍ موثوقةٍ بشأن سلامة العائدين، وضماناتٍ بعدم ملاحقتهم لاحقًا في حال كانوا من معتقلي الرأي، واستكمال محاكمات الموقوفين بجرائم جنائيّة.
- العفو العام الشّامل: يتبنّاه بعض النّوّاب والمحامين والنّاشطين، ويعدّونه حلًّا جذريًّا لتخفيف الضغط عن السّجون. بيد أنّ تضمين هذا العفو الشّامل قضايا خطيرةٍ يثير معارضةً شعبيةً وسياسيّةً؛ فضلًا عن عراقيل دستوريّةٍ قد تستدعي تدخل المجلس الدّستوريّ للبتّ في مدى دستورية بعض بنود العفو، فضلًا عن التعقيد السّياسيّ الذي يتطلب مصالحة وطنيّة بالمرتبة الأولى.
- المقاربة الإنسانيّة والقانونيّة الدوليّة: قد يتدخّل المجتمع الدّوليّ عبر منظّمات الأمم المتّحدة، كمفوضيّة حقوق الإنسان أو مفوضيّة شؤون اللاجئين، لتسهيل خروج بعض الموقوفين السّياسيين إلى دولٍ ثالثةٍ أو لتأمين حمايةٍ دوليّةٍ مؤقّتة.
- التّعاون الأمنيّ: يُمكن للبنان أن يدرج الملفّ في إطار اتّفاقيّاتٍ جزئيّةٍ محدّدةٍ مع الحكومة السّوريّة، بحيث يُعاد النّظر في كلّ حالةٍ على حدةٍ وفق معايير قضائيّةٍ، لتفادي خرق مبدأ عدم الإعادة القسريّة (Non-refoulement) المنصوص عليه في القوانين الدّوليّة لحقوق الإنسان من جهة، وتحقيق مطالب السّجناء في العودة إلى بلادهم وتحديدًا بعد تحريرها من حكم نظام الأسد من جهةٍ ثانيّة.في المحصّلة، يعكس ملفّ تسليم المعتقلين السّوريّين في السّجون اللّبنانيّة تعقيداتٍ قانونيّةً وسياسيّةً وإنسانيّةً تتشابك مع واقعٍ إقليميٍّ أشدّ تعقيدًا. فالأمر لا يقتصر على مصير بضع مئاتٍ من الموقوفين المنسيّين في زنازينهم، وإنّما يعبّر عن استحقاقٍ ملحٍّ يتطلّب حلولًا شاملةً تقطع مع الممارسات المجحفة السّابقة وتعيد الاعتبار لمبدأ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. وبانتظار ما ستسفر عنه الاتصالات الرّسميّة بين بيروت ودمشق، يبقى الأمل معقودًا على أنّ تشكّل هذه القضيّة مناسبةً لمراجعةٍ وطنيّةٍ شاملةٍ لسياسة التّعامل مع اللاجئين والموقوفين عمومًا، سواء أكانوا سوريّين أم لبنانيّين أم من أيّ جنسيّةٍ أخرى، وذلك بالاستناد إلى معايير العدالة الانتقاليّة وضمانات حقوق الإنسان الدوليّة.