يخاطبنا منصور الرحباني في مئويته (1925-2025) سائلاً عن حالنا في هذا الوطن المأزوم بسبب غياب ضمائر حكامه وعقولهم الغارقة في بحر مصالحهم. منصور الرحباني، الذي أسقط مع عاصي، الطائفية والمذهبية في مسرحياته، أحبنا من خلال اللحن والكلمة والجمال والشعر، واضعاً الضوء لبناء وطن، لم يكن مشروعاً حالماً في مسيرة الأخوين الرحباني، بل هو الواقع الحقيقي المبني على القيم الإنسانية والإخلاقية والأسئلة الوجودية الباحثة دوماً عن الحقيقية أو طيف من الحقيقة. تمر مئوية ولادة منصور الرحباني هذه السنة في غياب أي مبادرة رسمية كالعادة، بل اقتصرت على دينامية أبنائه غدي ومروان وأسامة، بالتعاون مع الشاعر هنري زغيب، الذين أرادوا تكريمه، من أجل زرع الأمل في نفوسنا أن مسرح الأخوين الرحباني هو رديف الفكر الإنساني، ومن خلاله يمكن أن نفترش أرض لبنان ونلتحف سماءه وترابه، الذي يلف جسد عاصي ومنصور.
هذه المئوية إتسمت بالوفاء، لا سيما في حضور رفاق درب منصور وعاصي بدءاً "من أهل البيت" أي الفنانة هدى حداد، نينا الياس الرحباني، غسان صليبا، وجهاد الأطرش وسواهم وصولاً إلى الصحافي رفيق خوري، صديق عاصي ومنصور منذ مطلع شبابه، الذي روى في كلمته خلال افتتاح أنشطة المئوية في الصالون الأدبي في معهد ومؤسسة فيلوكاليا، كيف "كُتب للأخوين مسلسل يلحنانه عن أشهر المغنين العرب، وكانت ضمن إحدى حلقاته قصيدة "أرجعي يا ألف ليلة"، فسحبها عاصي من المسلسل وجعلها في لوحة الموشحات"، مشدداً على أنها "ما زالت حتى اليوم من أبرز الأغاني بصوت فيروز، التي "تغني أصعب الألحان والقصائد بأداء فريد يعادل صوتها الفريد".
حصاد العمر في "يوتيوب" وموقع إلكتروني خاص
يكشف الفنان غدي الرحباني لـ"المدن" بعض أنشطة مئوية والده منصور حيث تتوافر أعماله في قناة "يوتيوب" رسمية، فضلاً عن إستحداث موقع إلكتروني لتغطية الندوات المرافقة للمئوية نفسها، إضافة الى أن وزارة التربية حرصت على إصدار تعميم بمناسبة مئوية منصور، طلبت فيه من القيمين على المدارس تشجيع التلامذة على تنظيم حفلة نهاية السنة بوحي من مسرحية للأخوين الرحباني أو لمنصور نفسه، مع حرصنا على توفير النص للعمل نفسه وكل المساعدة المطلوبة للمسرحية نفسها". يستعيد غدي ذكرياته عن والده منصور "الأب العظيم، والذي سرقه العمل المسرحي الغنائي منّا في صغرنا... لم نتعرف من كثب على والدنا إلا عندما بدأنا العمل معه في كواليس المسرح، وكان ينكب على عمله ليلاً في حين كنت مع شقيقيّ نخلد إلى النوم لنتوجه صباحاً إلى المدرسة".ماذا يميز منصور عن عاصي؟ يجيب غدي مسرعاً أن لكلّ منهما شخصيته، "مع فارق مهم أنهما يتحدان بالفن والفكر"، موضحاً أنه "قبل توقيع العمل بإسم الأخوين الرحباني، اعتمد كل من عاصي ومنصور في بداية مسيرتهما، أي في أربعينات القرن الماضي، الإشارة إلى دور كل منهما في إعداد بعض الأعمال، ومنها أغنية "راجعون" مثلاً، من خلال التوقيع على العمل بأنه من تلحين عاصي الرحباني وكلمات منصور الرحباني".
المسرح و"رهبنة" فيروز
"فيروز ترهبنَت للفن بين الناس، عاصي ومنصور وفيروز لبطوا المجد وبقيوا متزنين في حياتهم"، يقول غدي الرحباني. وماذا بقي من منصور بعد وفاة عاصي؟ يجيب غدي بأن منصور "أكمل المسيرة بأعمال عظيمة منها "صيف 840" ومسرحية "سقراط"، وهي الشخصية العظيمة التي أنزلها منصور من برجها العالي لتكون في متناول الجمهور، لأننا لم نعرف سقراط تماماً إلا من خلال تلامذته أفلاطون وزينوفون، إضافة الى مسرحية "المتنبي" الذي أخبرنا عنه من خلال محيطه أي من خلال كافور الإخشيدي، وسيف الدولة، مضيفاً بعض قصائد المتنبي طبعاً وقصائد لمنصور نفسه". يشدّد غدي: "تمسكنا بأهمية تنظيم عروض جديدة لمسرحيات منصور الرحباني بعد وفاته، كإعادة لكل من "صيف 840" في مهرجانات جبيل العام 2009، ومسرحية "ملوك الطوائف" العام 2010 في قطر، وفي العام 2016 في مهرجانات تنورين". مسرحية جديدةيخص غدي الرحباني "المدن" بخبر مفرح مفاده أن مباحثاتٍ تجري لتقديم مسرحية "علي بابا والـ...كذا حرامي"، وهي من تأليفه، "كننا لم نحدّد حتى الآن، الدولة التي ستستضيف العمل أو حتى إن كان سيعرض في لبنان أو خارجه، مع العلم أن الزمن الذي كان يجذب الجمهور إلى شباك التذاكر لأعمال الرحابنة، طوال أشهر عديدة، تغير كلياً في يومنا هذا، لأننا نعي حقيقة أن تنفيذ عمل مسرحي متكامل بات أمراً مكلفاً مع تسجيل حقيقة أن تراكم الأزمات ساهم في تغيير أذواق الكثيرين ممن ينجرفون خلف العمل السهل". يكشف أيضاً أن بعض النماذج من أرشيف الأخوين الرحباني قد تم إيداعها، بناء على طلب الباحثة والكاتبة زينة صالح كيالي، في مركز التراث اللبناني الموسيقي في مدرسة الجمهور، مشيراً إلى أن "إيداع أرشيف الأخوين الرحباني يحتاج الى موافقة الشركات العربية المتعاونة معهما وهذا مسار قانوني لحماية الملكية الفكرية، مع العلم أنني أتطلع الى إيداعه في جامعة الروح القدس الكسليك عندما تتكامل العناصر المطلوبة لذلك". شعراء يشهدون لشاعر بالفطرة
في كواليس المئوية، قال الشاعر هنري زغيب لـ"المدن"، رداً على سؤال عن غياب الدولة عن أي مبادرة تكريمية لمنصور الرحباني في مئويته، أنه "ليس جديداً أن تنطلق المبادرات الفردية في الشأن الثقافي الأدبي والفني في غياب أي مبادرة تقوم بها الدولة لأنه في ظني أن أهل السلطة يتغيرون وتبقى المبادرات الثقافية الفردية بديمومتها على الزمان". "لنعُد الى منصور،" يقول زغيب، "فهو شاعر أولاً وأخيراً، وبالشعر يطرز موسيقاه وألحانه". ويشدد أنه "يخطيء من يظن أن المسرح الرحباني ضعُف بعد غياب عاصي، لأن منصور أنتج 11 مسرحية بعد رحيل عاصي، وفي جميعها النسق التأليفي ذاته الذي ألفناه في مسرح الأخوين الرحباني". أما الشاعر سهيل مطر فقد أكد لـ"المدن" أن "منصور الرحباني شاعر بالفطرة، ما يثير التساؤل كيف تمكن هذا الرجل، الذي لم ينتسب الى أي جامعة، أن يصبح من أحدث الشعراء وأهمهم في القرن العشرين؟"، مستذكراً مطلع قصيدة "لقاء الأمس" لمنصور والتي غنتها السيدة فيروز:
لَمْلَمْتُ ذكرى لقاءِ الأمسِ بالهُدُبِ
ورُحْتُ أحضُنُـها في الخافق التَعِبِ
لَمْلَمْتُ ذكرى لقاءِ الأمسِ بالهُدُبِ
ورُحْتُ أحضُنُـها في الخافق التَعِبِ
أيدٍ تلوّحُ من غيبٍ وتغمرني
بالدفء والضوء بالأقمار بالشُهُبِ
ما للعصافير تدنو ثمّ تسألُني
أهملتِ شعرك راحت عقدةُ القَصَبيغوص مطر في محاولة فهم أسرار منصور الرحباني، والتي راكمها في حياته، رغم أنه كان يهرب مراراً من المدرسة، موضحاً أن "الكتاب بات مجالاً للثقافة، إضافة الى أن صداقته بعدد كبير من الشعراء كان لها أثر فيه، ومنهم سعيد عقل والأخطل الصغير ونزار قباني وعمر أبو ريشة، إضافة الى أمين نخله، صلاح لبكي، جوزف حرب ورفيق خوري، وسواهم".
يؤكد مطر أن "سعيد عقل ردّد مراراً أنه ما كتَب له، بل فتحتُ أبواباً لهما"، أي أنه لم يكتب لأولاد الرحباني، بل إعتبر نفسه دليلاً لهما. ويعتبرمطر أن "أهمية الإبداع الرحباني، أنه لم يتجل في الأفكار عند الرحابنة، بل في توليد صورة جديدة لم نعتَدها في الشعر، نقلوا هذه الصورة بأسلوب وترتيبات لم نعتدها في الأدب"، مشيراً إلى أن "الجمال الإبداعي يتجلى في هذه الصورة المبتكرة على غرار قول منصور وعاصي مثلاً: بكرا انت وجايي راح زين الريح، وهو تشبيه بسيط وجديد". يتوقف مطر عند إبتكار منصور الرحباني بعد موت عاصي، في الصورة الابداعية، إذ قال مرة: "كتبت اسمك على جرس الكنيسة، فخرجت الراهبة وقالت: مَن جعل رنين الجرس أحلى؟"، متمنياً أن يكون لمنصور وعاصي والشعر الحديث في لبنان والعالم العربي، بفصحاه وعاميته، دور في المناهج اللبنانية التعليمية الجديدة. (*) تجدر الإشارة إلى ندوتين بمناسبة مئوية منصور الرحباني، الأولى في مركز التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأميركية، والثانية في جامعة سيدة اللويزة، إضافة إلى فاعلية في مهرجان الكتاب اللبناني في إنطلياس، وعروض مسرحية في المركزين الثقافيين البلديين في زحلة وعجلتون.