بعد دعوته إلى حلّ حزب العمال الكردستاني وإلقاء السلاح بما يذكر برواية إرنست همنغواي "وداعاً أيها السلاح"، تتجه الأنظار إلى الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، الذي من المتوقع أن يتوصل إلى صفقة أو تسوية مع الدولة التركية تؤدي في النهاية إلى الإفراج عنه. فقد عاد أوجلان، الذي سُجن قبل 26 عاماً، إلى دائرة الضوء في تركيا بعد حديث عن إنهاء الصراع الذي بدأه قبل 45 عاماً ضد الدولة التركية.أوجلان أو "أبو" (وتعني "العم" بالكردية)، الذي لم يكن زعيمًا عاديًا بل كان معبودًا لأعضاء حزب العمال الكردستاني ومؤيديه، ثمة من يقول إن إسمه بالتركية يعني "المنتقم" أو "طالب الانتقام"، وهو يكتب أنه منذ نعومةِ أظافره كانوا يلقبونه بـ"Dînê çolê"، أي "مجنون البراري والجبال".وُلد أوجلان، في بلدة ولاية شانلي أورفا، جنوب غربي تركيا، لأمّ تركيّة وأبٍ كرديّ. وتذكر بعض التقارير أنه ولد العام 1948 وربما 1949. وتتضمن سيرته الكثير من التشعبات والتحولات في خضم الحرب الباردة والصراعات العالمية والشرق أوسطية، وهو من الشخصيات المثيرة التي كانت "بندقية للإيجار"(تسمية باتريك سيل للفلسطيني"أبو نضال").تنقل الصحافية مروة شبنم أوروج (في مقال مترجم في مجلة "قلمون") أنه من المثير للاهتمام أن أوجلان كان يحلمُ بأن يكون جنديًا في طفولته، لكنه عندما لم يتمكن من اجتياز امتحانات الثانوية العسكرية، التحق بثانوية الأناضول المهنية للسجل العقاري. واللافت أن زعيم المنظمة الماركسية اللينينية الستالينية، كان في السابق محافِظًا (يمينيًا إسلاميًا). وبحسب كتاب "الملفّ الكردي" للصحافي أوغور مومجو، كان أوجلان يصلّي في مساجد أنقرة أحيانًا، ويشارك في الأنشطة المناهضة للشيوعية. وهو أمام هذه المعطيات، كان سباقاً في التكويع الإيديولوجي، وربما لا يختلف عن بعض الشخصيات اللبنانية من أصحاب "المسارات المتعاكسة" الذين انتقلوا من اليسار إلى الطوائف، واليوم يكوّع إلى مسار جديد سيأخذ الكثير من الجدل والنقاش، والأرجح أتى التكويع بعد مجموعة من التفاهمات.
"المنتقم" بدأ من أنقرةمع إيجابية الموقف التاريخي ووداع السلاح والتكويع الجديد، لا بد من قراءة سيرة "أبو" الذي وظف القضية الكردية ضمن لعبة حروب الآخرين، أو في خدمة حروب الآخرين. كان أوجلان يمارس عمله كموظف في ديار بكر العام 1969، والتحق بكلية الحقوق، وفي العام ذاته نقل تعليمه إلى كلية العلوم السياسية في جامعة أنقرة حيث بدأ نشاطه السياسي، وخلال سنوات دراسته الجامعية، أصبح مهتمًا بالآراء الشيوعية. بدأ أوجلان عمله السياسي كعضو شعبة في "جمعية ثوار الثقافة الشرقية" في إسطنبول العام 1970. واعتُقل للمرة الأولى في 7 نيسان 1973، عندما كان يوزع منشورات، ليقضي سبعة أشهر في السجن. بدأ يحلم بدولة كردستانية اشتراكية في ظل المنظومة الشيوعية وتمدّد الاتحاد السوفياتي، ليحشد المؤيدين لمشروعه العام 1973. بعد عام، تحولت تلك الاجتماعات إلى منظمة سمّيت "جمعية أنقرة الديموقراطية للتعليم العالي".شرع أوجلان في تأسيس "حزب العمال الكردستاني" في العام 1978 في تركيا، بهدف تأسيس دولة للكرد في المنطقة الواقعة بين العراق وسوريا وتركيا وإيران، وأعلن الحزب توسيع نطاق نشاطه، وخاض ما يسمى بـ"العنف الثوري" وحرب المدن التي استمرت ثلاث سنوات وتوقفت بسبب انقلاب 12 أيلول 1980 وحكم المجلس العسكري. دخل اوجلان إلى سوريا العام 1980 في عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي سمح له بإقامة معسكرات تدريب لأعضائه في سهل البقاع داخل الأراضي اللبنانية أيام الاحتلال السوري للبنان. وعلى شاكلة نظام الملالي ذي "الحرس الثوري" في إيران، كانت للنظام الأسدي الأبدي(زمن الأب) مجموعة من الأذرع الماكرة، بدءاً من الفلسطينيين أبو موسى وأحمد جبريل وزهير محسن، وصولاً إلى عشرات الشخصيات اللبنانية والعراقية والموريتانية والأردنية والمصرية. كان نظام الأسد يهدف إلى الإستيلاء على قرار القضية الفلسطينية، كما استولى على قرار السيادة اللبنانية بعد حروب طاحنة ومتنقلة واغتيالات ومساومات ودعم أميركي. ولم ينحصر المشروع الأسدي آنذاك في "خاصرة سوريا الرخوة" (لبنان)، أو جنوب سوريا (أي فلسطين)، بل امتد إلى دعم منظمات عديدة مثل (الجيش الأرميني السري لتحرير أرمينيا) و"DEV-SOL" (اليسار الثوري)، وحزب البعث الأريتري، ومن بين الأذرع الأكثر نفوذاً كان حزب العمال الكردستاني الأوجلاني. وفقًا للبعض، سمح حافظ الأسد لأوجلان بإنشاء معسكرات في ضيافة منظمات فلسطينية، مقابل "السيطرة على أكراد سوريا"، وساهم النظام السوري في تلميع صورة أوجلان من خلال بعض الصحافيين والكتّاب والكتب الحوارية، حيث يبدو أن الأسد كان يرمي القضية الكردية على تركيا، وأوجلان يجاريه في مشروعه.
وتنقل مروة شبنم أوروج، أن أوجلان قرّر في العام 1984، بدء حرب طويلة الأمد، في إطار المفهوم الذي طرحه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ وثورته الثقافية وحروبه. شن التنظيم هجوماً كبيراً في 15 شباط/فبراير1984. ولا ضرورة الآن لسرد يوميات الحرب الأوجلانية، معروفة التفاصيل والنتائج. في أيلول/سبتمبر1998، تحدث الجنرال أتيلا أتيش، قائد القوات البرية في الجيش التركي، من هاتاي، مشيراً إلى إمكانية إعلان حرب على سوريا: "لقد نفد صبرنا. إن لم يتخذوا الإجراءات، فإن علينا -الأمة التركية- اتخاذ جميع التدابير اللازمة".دخل الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، على خط الوساطة بين حافظ الأسد والرئيس التركي سليمان ديمريل. كانت تركيا حازمة. أنهت استعداداتها للحرب، وأمهلت دمشقَ 45 يومًا. فاضطر حافظ الأسد إلى التراجع، وإخراج زعيم أوجلان من أراضيه الذي يقال أنه كان يقطن المبنى حيث يسكن الملحق العسكري التركي في دمشق. بعد ذلك، وقّع البلدان "اتفاق أضنة" في 20 تشرين الأول 1998.في تلك الفترة، كان الزعيم الكردي ملاحقاً من قبل الاستخبارات المركزية الأميركية، و"الموساد" الإسرائيلي، والمخابرات التركية، والمخابرات اليونانية. وانتقل من سوريا إلى روسيا ثمّ إيطاليا. وبعد إخراجه منها أيضاً من قبل الحكومة الإيطالية، اختبأ في السفارة اليونانية في كينيا. حاول الحصول على لجوء سياسي، لكنه لم ينجح في مسعاه، وبعد إخراجه من السفارة اليونانية، ألقت وحدات أمن كينية القبض عليه، وسلّمته في 15 شباط/فبراير1999 لمسؤولي الأمن التركي. نُقل بطائرة خاصة إلى تركيا، وصدر بحقه حكم بالإعدام، قبل أن يتحول إلى حكم السجن مدى الحياة، بعدما ألغت أنقرة عقوبة الإعدام العام 2002. تكشفت قضية أوجلان تباعاً، في مقابلةٍ أجراها مع إحدى القنوات الإعلامية التركية العام 2011، بالتزامن مع ازدياد قمع التظاهرات. دَور جميل الأسدويروي عبد الحليم خدام، الذي كان نائب الرئيس السوري حينذاك، واصفا مجيء أوجلان إلى دمشق: "لعب شقيق حافظ الأسد، جميل الأسد، الذي توفي في كانون الأول/ديسمبر2004، دوراً مهماً في تثبيت إقامة عبد الله أوجلان في سوريا. أظن أن جميل الأسد جلب أوجلان ليستخدمه ضد تركيا، وكان جميل الأسد مقرّبًا من أوجلان، ولم يكن حافظ الأسد يلتقي بأوجلان بشكل مباشر، لكنه كان يتلقى المعلومات التي تخص أوجلان من شقيقه جميل بشكل دوري". وهنا صور تجمع أوجلان وجميل الأسد ومعراج اورال.
كتب الباحث وضاح شرارة في جريدة "الحياة" المحتجبة، بعد توقيف أوجلان، أنه "قد يكون من أكثر الأمور ضرراً على الحركة الوطنية والإستقلالية الكردية، وهي غير الحركة الإنفصالية والإرهابية الغالبة والظاهرة اليوم، الإرث الذي خلفه عبدالله أوجَلان وترعاه قيادة حزب العمال الكردستاني وقواعده المقاتلة. وهذا من مراوغة التاريخ وحِيَله. فالرجل الذي يتعرَّفُه أكراد كثيرون وجهاً بارزاً، وربما الوجه الأبرز، لنازعهم القوي إلى الاستقلال بهوية تاريخية وثقافية قد لا تستقل بهوية سياسية ناجزة في وقت منظور، هذا الرجل هو نفسه من حمل السياسة الكردية اليوم، وفي مناسبة خطفه واعتقاله، على ركوب أغلاط وهفوات أودت به، وقد تودي بحركة الشعب الكردي الوطنية". أما أوجلان فكتب: "المعادلةُ التي كانت سائدةً أثناء المرحلة التي أدت إلى خروجي من سوريا، أكثرُ لفتاً للأنظار. فالرؤية التي أخرجَتني من سوريا، ترتكز مجدداً في مضمونها إلى تضارُبِ الأهميةِ الفائقةِ التي أَعَرتُها دوماً لعلاقاتِ الصداقةِ مع سياسةِ إسرائيل تجاه الكرد. فإسرائيلُ التي عَوَّلَت على رُبُوبِيَّتِها وزعامتها للقضية الكردية، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، كانت قد أضحَت بالغةَ الحساسية تجاهها، لدرجةٍ لن تحتملَ معها طرازاً ثانياً من الحلِّ في ما يتعلقُ بالقضيةِ الكرديةِ التي بدأَ وقْعُ صداها يتسعُ طردياً متمثلاً في شخصي. ذلك أن طرازي في الحل لَم يَكنْ يتناسبُ إطلاقاً مع حساباتِهم. عليَّ ألاّ أنكرَ دورَ الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) التي دَعَتني بشكلٍ غيرِ مباشر إلى طريقتها في الحل. لكني لم أكن مستعداً أو منفتحاً لذلك، أخلاقياً كان أم سياسياً. لم تَرغَب الإدارةُ السورية العربية تجاوزَ شكلِ العلاقات التي يغلب عليها الطابع التكتيكي مع قيادة PKK، علماً أن رئاسة حافظ الأسد تحققت اعتماداً على صراع الهيمنةِ بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي". ويضيف: "لَم يَكن حافظ الأسد قادراً على الحفاظ على أية علاقةٍ تكتيكية، في ظلِّ الأجواءِ الحَرِجةِ البارزةِ مع انهيار الاتحادِ السوفياتيّ".
أوجلان لبشار الأسد: "أعطونا حكماً ذاتياً وسندعمكم"في العام 2013، عندما غيّرت الولايات المتحدة الاميركية سياساتها تجاه سوريا، وقدّمت الدعم بالأسلحة لـ(PYD)، الذراع السوري لـ(PKK)، تحت مسمى "مكافحة إرهاب داعش"، ثم في 2014، كان هناك خبر جديد يشغل الإعلام التركي. ووفقًا لهذا الخبر، أن عبد الله أوجلان كتب رسالةً إلى بشار الأسد في 22 نيسان/أبريل 2011، قال فيها: "أعطونا حكمًا ذاتيًا، وسندعمكم". وفي العام 2013، أطلقت الجمهورية التركية عملية تاريخية، وهي "حلّ المسألة الكردية"، مع بدء سيطرة (PYD) على أجزاء من شمال سوريا، بإذن من النظام السوري.في العام 2014 أيضاً، وجّه أوجلان رسالة إلى الحكومة التركية والأطراف الكردية، شدّد فيها على ضرورة التمسك بالسلام، وحذّر من داخل سجنه، من مخططات إفشال مسيرة السلام. كما دعا أنصاره، في نهاية شباط/فبراير2015، إلى السعي لإنهاء الصراع المسلح مع تركيا، معتبراً أن الحاجة ماسة إلى قرار وصفه بـ"التاريخي"، للتوصل إلى "حل ديموقراطي".وبعد حوالى عقد من الزمن، عادت قضية أوجلان إلى الواجهة بعدما وجّه رئيس حزب "الحركة القومية" دولت بهشتلي، المنضوي في الائتلاف الحاكم في تشرين الأول/أكتوبر2023، دعوةً للزعيم الكردي للحضور إلى البرلمان وإعلان حلّ حزبه، مقابل إطلاق سراحه. وبعد مفاوضات، وبعد 26 عاماً من السجن، تُوجّت هذه المفاوضات بـ"إعلان تاريخي" لأوجلان، دعا فيه إلى إلقاء السلاح وحل "حزب العمال الكردستاني".وبغض النظر عن سيرة أوجلان، فإن الأسئلة بعد موقفه الأخير تبقى ملحّة: هل ينال الأكراد حقوقهم في تركيا بعد عقود مديدة من القمع الثقافي والإثني؟ وهل ستتحقق ديموقراطية حقيقية تقوم على الشراكة، وليس على الإقصاء؟ وهل سيتجاوب حزب العمال في سوريا مع موقفه؟