يعيش بعض من أهل السياسة في لبنان وكأنهم منقطعون عن المنطق الواقعي وبعيدين عن الحيّز المكاني والزماني في مقاربة التطوّرات المستجدة إقليمياً ودولياً وارتباطها بلبنان أو انعكاسها على الداخل، وهذا الانقطاع لا يعبّر عن حقيقة الفهم والقناعات لدى هؤلاء فحسب، بل يعبّر عن انسياق كلّي مع الطروحات والمشاريع المرسومة أمريكياً لمستقبل المنطقة برمّتها وفي قلبها لبنان، ويتناغم مع المواقف الأمريكية والإسرائيلية والبعض عربية في هذا الإطار، دون أن نغفل طموحات هؤلاء في حجز مقعد أساسي لهم في التركيبات السياسية التي يعتقدون أنها ستترافق حكماً مع رياح التغيير القادم.
وعلى دأب التناقضات التي تتّصف بها الاتجاهات السياسية اللبنانية، بدأ هؤلاء يطلقون “شعارات” كبيرة أفرزتها نتائج الحرب التدميرية التي شنّتها “إسرائيل” على فلسطين ولبنان وما أسفرت عنه من وقف لإطلاق النار وتفاهمات وقّعتها الدولة اللبنانية مع الكيان الصهيوني بهيمنة أمريكية، واستندت في خلفياتها الدافعة إلى اعتبار أن المنطقة قادمة على تغيير شامل مع اندلاع “الزوابع الترامبية” التي اجتاحت العالم كلّه، ولم تقتصر فقط على إعادة تشكيل ما يسمّى الشرق الأوسط، وأبرزها “حماية الشعب اللبناني”، و”تحرير الدولة من منطق المقاومة والممانعة”، و”حصر السلاح بيد الجيش اللبناني تأكيداً على سيادة الدولة اللبنانية” و”اللجوء إلى المجتمع الدولي عبر تطبيق القرارات الدولية”.
ولعلّ أخطر هذه الشعارات ما يتماهى مع المطلب الأمريكي – الإسرائيلي والقاضي بنزع سلاح المقاومة، وكأن المقاومة باتت هي المشكلة وليست الطرف القادر على حماية لبنان من العدوان الصهيوني المتمادي والمستمر، حتى وصل بالبعض إلى تسويغ هذا المطلب بهدف “إسقاط مبرّرات إسرائيل” لإبقاء احتلالها وبقائها في النقاط الخمس داخل الأراضي اللبنانية، وكأن لبنان هو الطرف المعني بطمأنة “إسرائيل” عبر إزالة مقوّمات قوته وتوفير المقوّمات التي تبعث الشعور بالأمن لدى المستوطنين للعودة إلى شمال فلسطين المحتلة واستئناف حياتهم الطبيعية!!..
أما اللبنانيون الذين فقدوا قراهم ومنازلهم وأرزاقهم نتيجة الإجرام الصهيوني فهم مقبلون على معاناة جديدة تلوح في الأفق وتتّصل بملف إعادة الإعمار الذي يبدو أنه سيتحوّل إلى عنصر ضغط جديد عقاباً لهم على تمسّكهم بخيار المقاومة، ووسيلة ابتزاز تقترب في اتجاهاتها من ابتزاز الفلسطينيين الذي يواجهون خطر “التشريد الطوعي” بذريعة إعادة إعمار قطاع غزة.
يرى دعاة السيادة المؤمنون بنظرية تغيير “الشرق الأوسط” أن “بناء مستقبل لبنان على أسس ثابتة وصلبة عمادها الأمن والاستقرار باستعادة الدولة سلطتها وقرارها وسيادتها على الأراضي اللبنانية كافة”، ولا أحد في لبنان من يناقش أو يعترض على هذا المبدأ، ولكن القضية الكامنة وراء هذا الشعار الرنّان تتكشّف حين يربط هؤلاء هذا الأمر بـ”حصرية امتلاك السلاح وقرار الحرب والسلم والسيطرة على الحدود والمعابر وضبطها نهائياً” مع ما في ذلك من إشارة واضحة إلى سلاح المقاومة وما تعنيه من مطالبة بنزعه وتعرية لبنان من نقاط قوّته وكشفه أمنياً وسياسياً وسيادياً أمام أمريكا و”إسرائيل”، ولا يخجل هؤلاء من استغباء الشعب اللبناني بالقول إن “تمويل الجيش اللبناني معنوياً ودعمه من الشعب يكفي حتى يقلب المقاييس ليس بالعسكر والحرب بل من خلال المجتمعات الدولية”!!
وعلى سيرة “المجتمعات الدولية”، يرى جماعة السيادة والاستقلال أن “الأولوية هي لتطبيق وقف إطلاق النار الذي أقرته الحكومة السابقة ومن دون لف ودوران، فحين تتسلّم الدولة اللبنانية مسؤوليتها كاملة وتظهر جديتها بتنفيذ القرارات الدولية كافة ولا سيما 1701 و1559 و1680 ستقف إلى جانبنا دول العالم كلها لتأمين انسحاب إسرائيل من النقاط الباقية كافة”.. وكأن هذا المجتمع الدولي قادر على “تقشير بيضة” دون إذن أمريكي يحدّد له المسارات والمآلات، وهو اليوم مع مجيئ دونالد ترامب بات عاجزاً أكثر عن فرض أي قرار سوى اللحاق بنزعته السادية في الهيمنة على العالم.
ولعلّ أبرز مؤشر على انسياق السياديين في لبنان وراء مشروع الهيمنة الأمريكي ما صدر عن رجل الأعمال اليهودي الذي عيّنه ترامب مبعوثاً رئاسيا إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، حيث أبدى الرجل أمام فعالية نظمتها “اللجنة الأميركية اليهودية” في واشنطن تفاؤله حيال إمكان انضمام السعودية إلى الاتفاق الإبراهيمي، وقال إن “التحوّلات السياسية في المنطقة قد تمتد لتشمل لبنان وسوريا”، منبّهاً إلى “التحدّيات التي تواجه القوى المرتبطة بإيران في البلدين”، واعرب عن اعتقاده بأن “لبنان يمكن أن يتحرك قريباً للانضمام إلى اتفاقات السلام، وسوريا قد تكون أيضاً في الطريق نفسه، مما يشير إلى تغييرات عميقة تحدث في المنطقة”.
إنه المجتمع الدولي الذي يراهن جماعة السيادة على قدرته في تأمين الاستقرار في لبنان، وأي استقرار يتحدث عنه هؤلاء في ظل تواطؤ هذا المجتمع مع “إسرائيل” وخضوعه للإدارة الأمريكية في تغطية كل ما يقوم به بنيامين نتنياهو من أعمال إرهابية في فلسطين ولبنان وسوريا دون أن يحرّك ساكناً؟! وأي أمن للبنان ستكفله قرارات هذا المجتمع طالما أنها غير نافذة على “إسرائيل” التي تمعن في خروقاتها البرية والبحرية والجوية وتستبيح بطيرانها الحربي والتجسسي للأجواء اللبنانية، ولا يسع لهذا المجتمع غير السكوت وغض النظر عن الجرائم التي ترتكبها كل يوم بحق الشعب اللبناني وتهدف إلى كسر لبنان ودفعه إلى التسليم بواقع الانهزام والضعف، وهو الذي لا يجرؤ حتى على إصدار بيان استنكار أو رفض لهذه الانتهاكات؟!
إن حماية الشعب اللبناني لا تكون بسوق رقاب أبنائه إلى المقصلة الأمريكية – الإسرائيلية، وما هو مرسوم في واشنطن وتل أبيب لإبادة الشعب الفلسطيني، وما قامت “إسرائيل” وتقوم به على الساحة السورية من ضرب لمؤسسات الدولة وإبادة مقدّراتها العسكرية والاعتداء عليها واحتلال أراضيها على الرغم من سقوط النظام السابق، وما يرشح عن مخططات تحت عنوان “إسرائيل الكبرى” وغير ذلك من مشاريع توسّعية، كلّها تؤكد على ضرورة توفير مقوّمات القوة التي تمكّن لبنان وشعبه من الدفاع عن وجوده وقراره واستقلاله، وهذا لا يكون إلا بدعم المقاومة وتدعيمها كخيار ثابت لدى المكوّنات السياسية والشعبية والوطنية كافّة، لتكون الذراع الحامية للبنان إلى جانب الجيش اللبناني.
The post شمّاعة السياسة الداخلية.. كيف نحمي الشعب اللبناني؟!.. وسام مصطفى appeared first on .