عندما يحلّ الموت في بيت ما، تكون المرة الأولى هي المرة الأخيرة أيضًا.
يموت الأب للمرة الأولى، وتكون المرة الأخيرة. تموت الأم للمرة الأولى، وتكون المرة الأخيرة. لا موت يشبه الآخر. كل موت هو الموت، ويحدث مرة تكون هي الأولى والأخيرة.وفي لحظة الموت وساعاته ويومه، وأحيانًا ليلته، يحدث الكثير حول هذا الموت.سمعت كثيرًا عن لحظة الموت قبل أن يحلّ في بيتنا. سمعت عنه من أمي ومن نساء قريتنا، لا رجالها. وكنت أعتقد أن ما تقوله النسوة يعلم به الرجال وربما يتحدثون عنه أيضًا في ما بينهم، لكن تبين غير ذلك.سمعت منذ طفولتي قصة أمي لحظة موت أمها، وكيف كان لا بدّ لأمي أن تدير وجهها كي تموت أمها، كي تتمكن روحها من مغادرة جسدها، لأن المحتضرين لا يموتون إذا كان من يحبونهم ينظرون إليهم، فما بالك بالإبنة. كل نساء وبنات قريتي يتداولن هذه "الحقيقة". يتناقلنها بهمس ترافقه قشيعريرة عند موت أي أحد بحضور أحبابه: "قامت تجيبلو كباية مي رجعت لقيتو ميت"، "حرام نطرها تضهر من الغرفة لتطلع روحو بلا ما تشوف"، "ضهرناها من الغرفة عشان حرام كان عم يتعذب وهيي عم تطلع فيه"، "برمت وجهها ثانية وتطلعت فيها كانت ماتت".كنت أظنها معلومة عالمية عن الموت، إلى حين شاركتها مع صديقة من مكان آخر، فذُهلت، ثم تعمدت مشاركتها مع أشخاص من بيئات مختلفة. لكن، حتى الآن، يبدو أنها حقيقة تخص قرانا وقرى الجوار فقط. وعندما شاركتها مع أخي وأصدقائنا الشبان في القرية، كانت معلومة جديدة على مسامعهم. واستقبلوها هم أيضًا في ذهول. إذًا هي حقيقة تخص حصرًا النساء من قريتنا والقرى المجاورة.قبيل موت أبي بلحظات، عندما كان يلفظ الأنفاس الأخيرة، طلبت مني إحدى نساء القرية أن أترك الغرفة كي يغادر بسلام "حرام يا رولا، عم يتعذب". صرخت فيها حينها وقلت لها "كلكن بتضهروا وأنا ببقى". ثم تذكرت تلك المعلومة-الحقيقة فرأفت بالموجودات حوله وانصعت وخرجت لثوانٍ وغادرت الروح جسد أبي ومات. أما أمي فماتت وأنا نائمة قربها ويبدو أن زوجة عمي تعمّدت أن تؤجل إيقاظي كي تتمكن روحها من المغادرة من دون أن تعذبها نظراتي. أخطأَت زوجة عمي، ولا تعلم أن نومي هو ما سيعذبني إلى الأبد.يحصل الكثير حول الموت والميت. تتداخل الطقوس الإجتماعية بالدينية فيصعب فصلها. محاولة الفصل تكون أحيانًا لمجرد فهم الأحداث، وأحيانًا لنبذ ما يمكن نبذه بما يتناسب مع القناعات. وأحيانًا للمشاركة، بغض النظر عن القناعات، وذلك عندما تفهم أنك لا تريد أن تكون خارج ما يحصل لأن فيه الكثير من الحب والعزاء، وأن تكون جزءًا منه أهم من التفرّد ومن القناعات التي بعضها لا يقدم ولا يؤخر.لكن بعض التفرد ضروري، فيه موقف لا بد من اتخاذه، وفي أوقاتٍ حرجة وسط احتجاجات. فأبي منذ سنوات كثيرة، كان أول من رفض إقامة مجلس عزاء لوالده ولجدي وجدتي لأمي، في الحسينية، لأن هذا المكان الذي كان يمكن أن يكون نادياً اجتماعياً تحوّل ليصبح منبرًا للأحزاب ومشايخها. رفض أبي أن يصعد شيخ غريب على المنبر ليتحدث عن أمور لا علاقة لها بموتانا. وعندما مات أبي، تبنينا قراره وقناعته التي صارت قناعتنا، واستقبلنا المعزيين في منزلنا حيث مات. قررنا، أخوتي وأمي وأنا، وسط بعض الأصوات المعارضة، وحسمنا الجدل: بيتنا كبير ويتسع لجميع المعزّين، ولن يشكل لنا أو لأبي أي فرق أن لا يأتي من يفضل أن يعزينا في الحسينية المزينة بصور أعلام أحزاب لا ننتمي إليها، عدا عن عدم وجود سبب ديني يفرض عليهم التعزية حصراً في الحسينية. وعندما ماتت أمي، لم نضطر حتى لأخذ هذا القرار. لم يسألنا أحد، لأن الجميع كان قد علم أن بيتنا هو مكان العزاء.وحول الميت الذي كان أبي، حضرت النسوة مع قرائينهن، وأخبرننا، أختي وأنا، بأنهن سيقرأن له القرآن. كان لديهن شك في أننا سنقبل، لكننا لم نفكر للحظة في الأمر وقلنا: إفعلن ما شئتنّ، فقرأنَ. وعندما ماتت أمي، انتظرت إحدى القريبات حصولها على موافقتي كي تبدأ مع النسوة الأخريات بقراءة دعاء الجوشن. هذا الدعاء الذي سمعته كثيرًا في جنازات عديدة ولم أكن متأكدة من اسمه. قلت لها أن لا داعي لأخذ موافقتي، فقرأت ورددّتُ خلفها كباقي النسوة. كان لحنًا جمع كل مع حضر حول أمي.بعدها وزعّن، كما تجري العادة، على الأقل بين نساء قريتي أو ربما نساء "حي البيدر" الذي أنا منه، أجزاء القرآن في ما بينهن، فقرأن كل الأجزاء وختمن القرآن أكثر من مرة. المرة الثالثة كانت بعد أربعة أيام. لديهن مجموعة "واتسآب" يتقاسمن من خلالها الأجزاء، على أن تقرأ إحداهن الجزء الأخير أو "الختمية" على القبر يوم الخميس-ليلة الجمعة. قرأت معهن أحد الأجزاء. كانت قراءة صعبة، شعرت كأنني أقرأ لغة أخرى غير العربية. كنت أقرأ كي أكون جزءاً من هذا الطقس وهذا الحب، لا خارجه.غسل الميت أحد الطقوس الأساسية في الإسلام. أذكر أني تلصصت على جدتي أثناء غسلها حين كان عمري 6 سنوات، فالمغسل مكان مستحدث نسبيّاً في قريتي وفي قرى أخرى، قبله كانوا يغسلون الأموات في البيوت. بعد موت أمي بساعات، أخذوها مني إلى المغسل. هناك نساء محددات يقمن بغسل الموتى، هذه مهنتهن. ومسموح أن تدخل قريبة معهن لتقوم هي فعلياً بالغسل ويقمن هنّ بالمرحلة الأخيرة المتعلقة بالطهارة وقراءة ما يجب قراءته. أنا لم أدخل. ذكّرتني زوجة عمي أني يوماً ما قلت أني أريد أن أشارك، لكن عندما أتت اللحظة، عرفت أنه ليس بإمكاني مشاركة أحد هذا الطقس. بالأحرى لا يمكنني احتمال أن يشاركني هذه اللحظات أحد. فقررت ألا أكون معهن. عندما أخذوها بعيداً من قبلاتي ولمساتي، همسَت في أذني ابنة عم أمي وصديقتها: "إنتي كمان يا رولا روحي تحممي، أحسن حبيبتي". سمعت الحب في صوتها، ومن أنا لأكسر هذا التسلسل من الأفعال؟ فنظرت لها وأنا أرى في عينيها أنها تنتظر مني رفضاً، لكني وافقت واستحممت. ماما استحمّت، وأنا أيضًا، فكنا، نحن الإثنتين "طاهرتان". عمتي فرحت عندما علمت أني قبلت واستحميت بعد أخذ أمي بعيداً مني، وأنا لم أزعل.قلت لزوجات عمومتي أني، بعد عودة أمي إلى البيت من المغسل، لا أريد أن نكشف وجهها كما يحدث عادة، لم أكن أريد أن يراها أحد إلا حلوة كما كانت قبل المرض. وافقن معي. ثمة نسوة استغربن من دون أن يحاولن إقناعي بعكس رغبتي. كشفت وجهها لبضع دقائق فقط، لمن أراد الوداع الأخير.أصعب اللحظات في يوم الدفن، أو "الأجر" كما نسميه، هي حين نسمع خطوات الرجال القادمين باتجاه الغرفة حيث الفقيد(ة) والنساء. وهذه هي أكثر اللحظات التي تكره فيها النساء الرجال. الميت دائمًا يكون في غرفة النساء. كأنهن أحق بالميت من الرجال. هناك دائمًا من يقول: "إجوا الرجال"، فترتفع مع هذا الإنذار وتيرة البكاء والندب. هي آخر اللحظات مع الميت قبل أن يصل الرجال ويحاولوا إظهار تماسكهم أمام النساء. يودعون الفقيد سريعًا كي يتمكنوا من انتشال -بل سلخ- النعش من أيدي النساء وعيونهن بعد نظرة أخيرة وقراءة الفاتحة، ثم يسيرون به إلى المقبرة فيدفنونه بدموعهم التي في معظم الأوقات تكون صامتة. الأصوات التي تُسمع لحظة حمل الرجال للنعش هي أصوات البكاء المطلق.بكائي كان مطلقاً، لكن صامت. لم أذهب معهم إلى المقبرة، فالنساء لا يشاركن في الدفن لأنهن سيؤخّرن عملية الدفن إذا شاركن فيها. هناك اتفاق لا أعرف متى تم: النساء يحتضنّ الميت والرجال يدفنونه. وأنا لم أخرق هذا الاتفاق.حول أمواتنا تقام مجالس عزاء وتستمر حتى اليوم السابع، ثم كل خميس، وفي الذكرى الأربعين، والذكرى السنوية. تغيرت هذه المجالس كثيراً منذ كنت صغيرة. أذكر أيادي النسوة وهي تضرب على صدورهن وركبهن بهدوء ورقة، ندباً على فقيدهن، لكني لم أكن أذكر كلمات القارئات في تلك المجالس لغاية فترة العدوان الأخير على الجنوب، حينما أعدت الاستماع للقارئة الأشهر حسيبة هاشم، فتذكرتُ، وتذكرتُ كم تغيرَت مجالس العزاء ولهجات قارئاتها وكيف اختفت المراثي التي تشبه مراثي القارئة حسيبة.لم تدخل مجالس العزاء بيتنا، حتى أننا لم نُقِم ذكرى الأسبوع أو الثالث. فتحنا بيتنا للعزاء لمدة أسبوع. كانت الضيافة تمراً وقهوة. ولاحقاً، طبخنا في حديقتنا قدراً كبيراً من "القمحية" المكونة من القمح والحليب وجوز الهند والكثير من المكسرات. الجوز كان من شجرة الجوز في حديقتنا. دعينا كل النساء لطبخها وأكلها، لأن أمي كانت تحبها ولأن آخر ما استطاعت تناوله كان ملعقتين من القمحية وصلتنا من إحدى الجارات التي طبختها ووزعتها عن روح أهل البيت.تلك النساء اللواتي طبخن معنا القمحية عن روح ماما، هنّ مَن حوّلنَ بيتنا، وتحديداً مطبخنا، إلى غرفة عمليات بعد ساعات من موت ماما. اهتممن بكل شيء: تغيير مواقع الأثاث كي يتسع المكان، تحضير القهوة والجلي، حصر النواقص والحرص على أن يتم إحضارها، وتنظيف البيت بعد مغادرة المعزّين. نحن -أهل البيت- ممنوع أن نقوم بأي عمل، ولا نطبخ في الأيام الثلاثة الأولى. كل يوم، كان أحد الأصدقاء أو الأقارب يتولى إحضار وجبات تكفي أهل البيت والمقربين الموجودين معهم.خلال الأسبوع الأول بعد الوفاة، تزور نساء قريتنا قبر الفقيد. يمررن على منزل الفقيد ويذهبن إلى المقبرة مع النساء من أهل بيته. مررن بنا، أختي وأنا، وذهبنا معهن من دون أن أذرف دمعة. لا يمكنني أن أبكي أمي مع أحد. بعد اليوم السابع، توقفت عن مرافقة صديقات أمي المقرّبات. أذهب وحدي في الصباح الباكر أو في المساء بعد عودتهن. لا يعلمن حتى أنني أذهب للمقبرة. هن يذهبن لقراءة الفاتحة، فيما أذهب أنا لأبحث عنها، لأرى إن كان شيء منها ما زال موجود بيننا، قربي. أذهب لأبكي، كما أبكي في الغرفة التي أصبحت غرفة جلوسي بعدما كانت غرفة جلوسها ونومها.أذهب وحدي وتركض أمامي كلبتي جينجر، تجلس قرب القبر وتنتظر انتهاء بكائي، ثم تجري أمامي عائدة عندما أقوم عن الأرض.هناك، وتحديداً أيام الخميس، ألتقي مع من يذهبن منذ سنوات في موعد دائم لزيارة قبور أحبابهن وليغسلن القبور ويقرأن ويضعن الزهور. نبتسم، واحدتنا للأخريات، فأشعر أني أصبحت عضواً جديداً في نادي الحزانى وزائرات القبور.يترك المقربون أهل الفقيد عند انتهاء الأسبوع الأول، ليعيدوا ترتيب حياتهم واكتشاف حزنهم الذي لم يألفوه بعد. بعضهم يلتقون في ذكرى الأربعين، نحن لم نُقِم ذكرى الأربعين. لكني ألتقي بصديقات أمي كل يوم، عندما تحضر لي إحداهن صحناً من طبخة أحبها، أو عندما أشرب عند إحداهن الشاي التي أتشارك حبه مع أمي، أو حين تطلّ علي إحداهن وتجلس معي في الحديقة.يحصل الكثير حول الميت يوم الموت. وما يحصل بعد هذا اليوم، كثير أيضاً. كأن تبتسم لي نسوة الحي كلما لمحنني، لأنهن يلمحن صورة أمي في وجهي وفساتيني وخصل الشعر الأبيض في شعري.