في ظل التطورات الجديدة في الجنوب السوري، ظهرت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشأن دعم الدروز في سوريا، والتي تحمل بُعدين: داخلي وخارجي. داخلياً، يمكن اعتبارها محاولة لاستقطاب الطائفة الدرزية في الجولان السوري وفي داخل إسرائيل، خصوصاً بعد سنوات من التوتر بينهم وبين الحكومة بسبب قانون "الدولة القومية اليهودية" الذي اعتبره الدروز تمييزياً؛ وخارجياً محاولة لفرض وجود توسعي واستيطاني لقواته في الجنوب السوري في ظل الفراغ الأمني بعد سقوط نظام الأسد وتخلي عناصره عن ثكناتهم العسكرية في مناطق الجبهة وأهمها اللواء 212 واللواء 90 وسرية الدفاع الجوي الموجودة في منطقة كناكر القريبة من "مثلث الموت"، وهو المهم للغاية بالنظر للعمليات العسكرية في المدة بين 2013 و2016؛ وبعد انسحاب كل من الميليشيات الإيرانية والفصائل المعارضة المسلحة بموجب قانون المصالحة الوطنية عام 2018، وانسحاب القوات الروسية وانسحاب قوات حفظ السلام الدولية.
هذا الفراغ الأمني والاستخباراتي والتخبط العسكري والإداري في المنطقة الجنوبية من سوريا، دفع تل أبيب إلى إطلاق عملية برية في الداخل السوري مستندة بذلك إلى نقطة مفادها أن اتفاق عام 1974 قد انتهى بسقوط نظام بشار الأسد؛ ولا داعي للالتزام ببنوده، وعملت على تثبيت عدة نقاط في سفوح جبل الشيخ وفي المنطقة العازلة؛ وأهم هذه النقاط كان بالقرب من قرية حضر، ونقطة في منطقة تلول الحمر شمال شرق بلدة حضر، ونقطة في المحمية الطبيعة في جباتا الخشب بالقرب من برج الزراعة، ونقطة شمال شرق بلدة الحميدية، ونقطة بالقرب من سد المنطرة الاستراتيجي، ونقطة تل أحمر غربي جنوب بلدة كودنة، ونقطة مبنى المحافظة والمحكمة. اليوم إسرائيل بوارد الضغط على القيادة الجديدة للجلوس على طاولة مفاوضات للتوصل إلى اتفاقيات جديدة، وإلا فإن الجنوب السوري سيكون مسرحاً لعمليات الجيش الإسرائيلي وتحالفاته المحلية؛ وبالتالي فإن القيادة السورية الجديدة مطالبة اليوم بتعديل موقفها تجاه الجنوب السوري؛ لاسيما وأن القيادة الجديدة وجدت نفسها أيضاً تحت ضغط شعبي يطالبها باتخاذ إجراءات واضحة وصريحة حول التوغل الإسرائيلي.
نفترض بناءً على تفاعل أبناء الطائفة الدرزية مع وصول "هيئة تحرير الشام" إلى دمشق وإطاحتها بنظام بشار الأسد وتسلم الإدارة العسكرية الجديدة زمام الأمور في البلاد، ورغبة الإدارة الجديدة بحل جميع الفصائل وضمها إلى جيش سوري موحد وبسط سيطرتها على المدن السورية؛ أن هناك تشدداً وتعنتاً في خطاب المرجعيات الدينية الدرزية تجاه قرارات الإدارة الجديدة حول بسط نفوذها على السويداء بشرط أن تسلم الفصائل المسلحة فيها سلاحها والانضواء تحت راية جيش سوري موحد. تصريحات الشيخ حكمت الهجري حول عدم الرغبة بتسليم سلاح أبناء الجبل إلا عند تشكيل حكومة ووجود انتخابات وتقديم ضمانات حقيقية بالحفاظ على أمن وسلامة الأقلية الدرزية، بالإضافة إلى رفضهم الانضمام إلى أي حوار وطني لا يضمن وجود الأقليات وتمثيلهم فيه، وتشديده على ـن الهوية السورية الجامعة هي الأساس لوجود دولة مدنية؛ كلها أثارت بلبلة في المنطقة الجنوبية وعززت الدوافع لعزل المنطقة الجنوبية بالاستناد إلى الجغرافيا الواحدة التي تجمع ثلاث محافظات وهي السويداء ودرعا والقنيطرة.
استغلت تل أبيب هذا التعنت في الخطاب وفي العمل السياسي والتشبث بسلطة السلاح لدى فصائل الجنوب عموماً، ولدى الدروز خصوصاً، وأعلن نتنياهو أنه لن يسمح بأي اعتداء على الدروز وأنه ماضٍ بوجود القوات الإسرائيلية في الجنوب السوري لحين استتباب الأمن وضمان أمن الأقليات. هذا الحوار مكرر للمرة الثالثة بعد عامي 2016 و2023، حيث أوردت صحيفة معاريف تقريراً حول مصير الدروز في المنطقة المحاذية للجولان السوري بعد تعاظم قوة المعارضة السورية المسلحة والفصائل الإسلامية المنتشرة في المنطقة، وبيّنت فيه أن مخاوف الدروز في القنيطرة تنبع من اشتداد المعارك بين الدروز الداعمين لنظام بشار الأسد لا سيما قرية حضر التي تعدادها 14 ألف نسمة من الطائفة الدرزية ومعظمهم في كتائب الدفاع الوطني التي عملت لصالح النظام في وقت من الأوقات. ومع هذه التهديدات، كانت حضر تتعرض لضربات صاروخية - قصف هاون - من جهتي جباتا الخشب وجهة بيت جن، وضغط حينها حزب "كلنا" في جلسات الكنيست الإسرائيلي عن طريق عضو الكنيست الدرزي أكرم حسون، لتبني موقف واضح من العمليات العسكرية التي طاولت الدروز في القرى المحاذية للجولان.
وبناءً على هذه المعطيات والتطورات، لدينا دروز الجولان السوري المحتل ، والذين لا يخدمون في الجيش الإسرائيلي ويرفضون التجنيس وجواز السفر الإسرائيلي؛ ويرفضون التعاطي معهم على أنهم ورقة ضغط بيد تل أبيب ضد أي عمل مقاوم في المنطقة؛ ويظهر ذلك جليًا بعد رفض القيادات الدينية استغلال قضية وقوع الصاروخ في قرية مجدل شمس في تموز/يوليو 2024، ليكون ذريعة أمام إسرائيل لتصعيد عملها العسكري ضد لبنان.
ولدينا أيضاً دروز القرى في الداخل الإسرائيلي، والذين يشكلون حوالي 2% من السكان، ويخدمون في الجيش الإسرائيلي، لكنهم يشعرون بالتهميش السياسي، خصوصاً بعد تمرير قانون "الدولة القومية" عام 2018، الذي رسّخ الطابع اليهودي للدولة دون الإشارة إلى الأقليات الأخرى. حينها خرجت مظاهرات درزية كبيرة ضد القانون، لكن نتنياهو وحكومته لم يُظهروا أي بوادر تراجع عنه. الآن، مع هذه التصريحات حول دعم الدروز في سوريا، يحاول نتنياهو الإيحاء بأنه يدعم الدروز كطائفة، ربما بهدف امتصاص بعض الغضب الداخلي.
إضافة إلى ذلك، هناك ملف الانتخابات والتوازنات السياسية في تل أبيب؛ لا سيما وأن نتنياهو حالياً يقود حكومة يمينية متطرفة، ورغم أن هذه الحكومة تضم أحزاباً دينية وقومية لا تهتم كثيراً بمطالب الأقليات غير اليهودية، ورغم أن الصوت الدرزي ليس حاسماً انتخابياً، فإن أي تراجع في دعم الليكود بين الطوائف غير اليهودية قد يضر به، خصوصاً مع تصاعد المعارضة الداخلية بسبب سياساته الأمنية والاقتصادية. هذه التصريحات قد تكون محاولة لإظهار نفسه كزعيم يهتم بجميع الإسرائيليين، وليس فقط اليهود المتدينين أو المستوطنين.
مؤخراً، وبعد سقوط نظام بشار الأسد، ووصول هيئة تحرير الشام إلى معظم مناطق سوريا، فإن دروز قرية حضر الواقعة على بعد 4 كيلومترات من الحدود، تواصلوا مع قيادات محلية إسرائيلية للمطالبة بحمايتهم أمام هذا "المدّ الإسلامي"؛ لا سيما وأنها ساعدتهم في المدة بين 2014 و2016، عندما كانت ألوية الفرقان عل طول خطوط بيت جن وجباتا الخشب وطرنجة وتنفذ عمليات في القنيطرة. وبحسب تقرير أورده موقع "i24News" الإسرائيلي، فإن زعماء قرية حضر قد طالبوا بالفعل خلال اجتماعهم بضم القرى الدرزية إلى هضبة الجولان وأن يعيشوا تحت الوصاية الإسرائيلية لتفادي أي خطوات انتقامية من الفصائل الإسلامية.
فعلياً استغلت إسرائيل هذه المخاوف بشكل مثالي بالنظر إلى الواقعية السياسية، لتحقيق أطماعها التوسعية في خطوة لضمان أمن حدودها الشمالية، واستخدام الدروز لخدمة أجنداتها في المنطقة ككيان من شأنه أن يمنع اصطفافاً حقيقياً للبلاد. يمكن القول إن قضية الدروز في القنيطرة -على أقل تقدير - معقدة من عدة نواح: أولاً كانوا مهمشين من نظام الأسد واستقطب أبناءهم بالإغراءات المالية للخدمة في الدفاع الوطني، وثانياً وجدوا في الفصائل الإسلامية التي كانت عاملة في القنيطرة، خطراً وجودياً نتيجة لوجود أبنائهم مع نظام الأسد، فسعوا إلى التواصل مع تل أبيب لتحييد خطر هذه الفصائل بعد أن شهدت حضر وغيرها من القرى الدرزية عدة هجمات لمحاولات السيطرة عليها وكسب مساحات في المنطقة الجنوبية؛ لكنهم لم يكونوا مدركين لخطر التواصل الذي استغله نتنياهو لتعزيز روايته الحالية حول الضم والاستعمار.
تصريحات نتنياهو جاءت تتويجاً لمشاريع عدة في المنطقة لا سيما بعد الحرب على غزة والحرب على لبنان وقصف مقار أمنية وعسكرية وموانئ ذات ثقل في سوريا، لتكون الاستراتيجية الجديدة لدى تل أبيب لتأمين حدودها الشمالية وتأمين المستوطنات؛ ليكون ذلك عبر الحرص على بقاء المنطقة الجنوبية من سوريا منزوعة السلاح وخالية من أي قوات تحمل أيديولوجيا إسلامية قد تشكل خطراً على مستوطنات الشمال. هنا يبرز لدينا احتمالان لتحقيق هذه الخطة: الأول هو إبقاء الجيش الإسرائيلي في المنطقة الجنوبية وجعلها مستباحة تحت تصرف المدرعات الإسرائيلية وسلاح المشاة؛ والثاني هو إعادة ترتيب اتفاقيات أمنية طويلة المدى وجدّية بضمانات دولية ووساطات أهمها الوساطة التركية والأردنية، تكون قادرة على ضمان أمن الحدود وضمان حماية الأقليات.