أية كلمة هي التي تلمس المجرّة؟ هي تلك الكلمة التي لا تحترق. أية صرخة هي التي تهشّم العالم، وتكشف الدم الذي يصب من الأباريق؟ إنها صيحة الضوء الصاعدة من أوراق الزيتون، ومن اشتعالات الحجر الصوان في الزمن، ومن انفجارات أغنيات النار والحصاد فوق الريح.
إصداران جديدان للشاعر البحريني أحمد العجمي، أحدهما ديوان بعنوان "في مديح الإبادة"، والآخر كتاب مفتوح على الشعر والنثر والصور والرسوم والأغنيات بعنوان "من النهر إلى البحر.. الكلمة التي لا تحترق تلمس المجرّة" (نصوص لفلسطين).
في الكتابين معًا، يتخذ العجمي من ملحمة النضال الفلسطيني فضاء أوسع وأعمّ لاستيعاب النزيف الإنساني عبر التاريخ، وتعرية القسوة والتبلّد والخذلان وغيرها من الأمراض المستعصية التي استأصلت دقات القلوب وأفقدت الضمير الحيّ حواسّه. وهو يدرك جيدًا في نصوصه المفتوحة أن علم فلسطين لم يعد يرمز لفلسطين كأرض فقط، وإنما تحول إلى علم للحرية المقاتلة ضد الإبادة والتوحش والفلسفة الإجرامية المغلفة بالشعارات المكذوبة والمخادعة "أصرخ بأسئلتي، عن الإنسانية الملطخة بالدماء. إنهم يخافون من براءتكم، أن تكون بوصلة للحرية الساطعة".
إلى صورة طفلة نائمة نومًا عميقًا في الأبدية، بالمعنى التقليدي للموت، يلتفت الشاعر النابض، مزيحًا الأنقاض والأتربة عن جثتها التي تأبى التحلل، ومخاطبًا روحها المشرقة "أتدرين أنكِ أيقظتِ روح الشمس؟". إنه يقدم شهادة للوجود كله بأن الحجر قد كبر، ودم الطفل أصبح شجرًا، ونما قمرًا، وأن الكلمات الحرة التي تتمشى في الشرايين صارت مصابيح وقذائف تتحدى الظلم وتمحو رايات الاستسلام وتطرد أشباح الجبناء والمتآمرين "أعيننا تنفتح على الأمواج المحمّلة، برائحة الحب في الفجر. سنقاوم حتى ونحن أموات، سننتصر ونحن ننزف دمًا تحبه الشمس".
يعي الشاعر أن أنبل أهداف المعركة أن يكون للنسائم الطيبة مكان في مناخات الكراهية السائدة، إذ تمت سرقة الحب من قبل البرابرة، أولئك الذين "جعلوا العالم مائدة، يتناولون عليها لحمنا المقيّد بالسلاسل، ومذبحًا تهرب منه طيور الفينيق". وبغير استرجاع هذا الحب، كعلامة الحياة، فلا أمل في أن يهتز ضمير العالم المجنون، ولا مجال لرفع التابوت الأسود الذي تشكلت منه ذاكرة الحروب، لرميه في النار "هذا العالم مخبول، يزعم أنه يحمل قيثارة، يزعم أنه يحب. انظروا إلى رقبته، كيف تغرق في الفراغ المخصي، وحيدة بلا ربيع".
لا يكتفي الشاعر الحداثي بتملس الحقائق، وإنما يتشهى دائمًا فك الشفرات وتقصي الأسرار، مفتشًا عن اسم النجمة التي تجمع البكاء من القصيدة، ومتلصصًا على ما يفعله الدم حين يغلق الباب على نفسه، إذ يمارس الدم المتخفي مهامه العجائبية في معالجة الأضلاع المكسورة، ولملمة القبلات من الأفواه المتفككة.
السكون نفسه، وفق هذه الرؤية المتجاوزة، تراه العين الشاعرة أحيانًا نوعًا من المكر يستخدمه التاريخ من أجل العجائبي، الذي يقلب الواقع والوقائع، ويضعها في مدارات الخيال والدهشة والفانتازيا والخارق. وهذا العجائبي، كما يسرد العجمي، قد حدث في أرض غزة، مركز الزلزال العميق وغير المتوقع، بأيدي المقاومة، حيث تم إخراج العقل الصهيوني من قشرته، وفقد الكيان الاستعماري الهالة التي بناها حول ذاته ككيان ديمقراطي متحضر وقوي لا يمكن المساس به، وأصبح داخل إطار الإجرام.
ومن وجوه العجائبية أيضًا، أن تسونامي غزة، في الوقت ذاته، قد أزاح عن الأنظمة الغربية أقنعتها التي تتنمر بها على الشعوب بها، كالديمقراطية والتحضر وحقوق الإنسان، بل إنه "وضعها داخل إطار الهمجية والإجرام وعدم احترام المبادئ والأعراف والقوانين الإنسانية، حيث أخذت تشجع الكيان الاستعماري وتساعده على ممارسة القتل المجاني والإبادة للسكان".
تعمد نصوص أحمد العجمي، لاسيما الشعرية، إلى استنفار الطاقات الكامنة في الجوهر الإنساني، وشحذ الخلايا التالفة والمعطلة وشحنها بأنفاس الخصوبة والحيوية، وفي هذا معادل لما تنبني عليه التجربة بأكملها من تمجيد النضال والمقاومة، حتى من داخل قبضة الفناء "الموت سيتحوّل، إلى قصيدة لشعوب الأرض، إلى أمطار تغسل الزمن، من أسواق الحقارة".
هكذا، يرى الشاعر أن الحمى لا تزال مكبوتة، وقابلة للانطلاق في كل أرض وكل زمان، ذلك أن الموسيقى الكونية لا تنتهي أبدًا، والغمائم المحلقة قادرة على فتح المقابر، ومصافحة الأشلاء المنبعثة، واستعادة البروق والرعود والكلمات الاستثنائية التي لا تخمد ولا تتوارى "اليد المبتورة التي صافحتها، كانت خارجة من تحت الأنقاض، لتؤدي صلواتها".