بعد انتهاء الحرب على لبنان كان همّ حزب الله الأول بدء عملية التعويض على من فقد منزله بشكل كامل، ودفع مستلزمات الترميم لمن تضرر منزله، إذ كانت الأولوية للبيئة التي لطالما وقفت إلى جانب المقاومة وقدّمت لأجلها الغالي والنفيس، ومن ثم كانت الأولوية التالية المتمثلة بتنظيم تشييع استثنائي لقائد استثنائي هو الأمين العام للحزب الشهيد السيد حسن نصر الله.تحدي الولادةالتحدّي الأول لتشييع السيد كان المهلة المحددة بستين يوماً لانسحاب العدو الإسرائيلي، فكان القرار الاول هو التأجيل لما بعد الستين يوماً، فيكون العمل منصباً على الأولوية الاولى التي ذكرناها أعلاه، وبعد أن تحدد الموعد في 23 شباط، قبل أسبوع من دخول شهر رمضان المبارك، بدأ العمل لأن يكون النهار "تاريخياً"، تقول مصادر سياسية مقربة من الحزب، مشيرة إلى أن التحضير والعمل كان ينصب على هذا الأمر لاعتبار الحزب أن يوم التشييع سيكون للدفن والولادة في آن واحد. ولكن أي ولادة؟
هكذا تصف المصادر مشهد التشييع المهيب الذي يُشكل من دون شكّ التجمع البشري الأضخم في تاريخ لبنان، بمعزل عن محاولات التحجيم التي يتعرض لها الحشد من قبل خصوم الحزب، مشيرة إلى ما حصل يوم الأحد كان ولادة الحزب من جديد وخروجه من تحت أنقاض الحرب التي تسببت بالكثير من الأضرار، ولكن هذه الولادة ستكون مختلفة عما كان عليه الحزب سابقاً، على الأقل بحال استمرت الظروف الإقليمية والدولية القائمة اليوم على حالها لفترة طويلة.استعادة العافية التنظيميةتمكن الحزب من خلال التنظيم الدقيق والكبير للتجمع الضخم أن يُظهر استعادته لجزء كبير من عافيته التنظيمية، فبحسب المصادر عمل في التحضيرات حوالي 20 ألف شخص، وتمكن من إظهار حجم قوته الشعبية، فكان التجمع رسالة شيعية بالدرجة الأولى أكد عليها أمين عام الحزب نعيم قاسم عندما تحدّث عن الوحدة والتكامل بين حزب الله وحركة أمل، وشدد عليها رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي أصر على الحضور والبقاء لحوالي ساعة ونصف الساعة لتأكيد أمرين بحسب المصادر، الحضور الشيعي الموحد، والحضور الرسمي الذي أضفاه على هذه المناسبة الوطنية بتمثيله لرئيس الجمهورية جوزاف عون، ليقول أن الشيعة في لبنان موحدين وصامدين ولا يرون انفسهم سوى جزء من الدولة التي يُريدون أن يكونوا شركاء في بنائها، "فلبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، ونحن من أبنائه"، قال الشيخ قاسم.مقاومة الدولة؟ولادة الحزب الجديدة تمثلت أيضاً بخطاب الشيخ قاسم الذي، وإن أكد حقّ الشعب بمقاومة الاحتلال وإيمانه بهذه المقاومة، أشار بالمقابل إلى دعم الحزب لدور الجيش والدولة، وتحدث عن موافقة الحزب مناقشة استراتيجية دفاعية للبلد بعد تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي لا قبله.
لن يكون سهلاً على الحزب الجديد أن يتخلى عن المقاومة، لكنه بكل تأكيد سيبحث عن وسائل جديدة، ويُحاول أن يوائم بين مقاومته ورغبة الدولة بتولّي زمام كل ما يتعلق بالسلاح والدفاع وقرار الحرب والسلم.يُدرك الحزب الذي وُلد الأحد أن الظروف الإقليمية والدولية تبدلت بشكل جذري، إذ لا يوجد سند متين اليوم لاستعادة العمل المقاوم بشكله الذي اعتاد الحزب عليه، وعليه سيكون الحزب الجديد معنياً بأمور أساسية تبدأ من إعادة ترتيب وتنظيم صفوفه الداخلية وقراءة مسار الحرب بتفاصيله للركون إلى معرفة تفاصيل ما حصل وكيف ولماذا حصل، ولا تنتهي بوثيقة سياسية جديدة تُحاكي نيته العودة إلى الداخل بشكل أكبر من قبل، وهو ما ألمح إليه الحاج وفيق صفا بإحدى مقابلاته التلفزيونية، والعودة إلى الداخل ستكون عنوان المرحلة المقبلة بالنسبة للحزب.لن يكون درب الحزب الجديد سهلاً، ولا درب "الشيعية السياسية" ميسراً، والممثل السياسي الشيعي يُدرك ذلك، سواء من خلال الضغط الانتخابي، علماً أن معركة رئاسة المجلس النيابي انطلقت وخلال الأشهر التي تسبق الإنتخاب سيكون هناك حملات كبيرة على موقع الرئاسة ووجود نبيه بري فيه، أو ملف التعيينات الذي انطلق وتتدخل فيه دول، لذلك سيكون التحدي الأساسي في المرحلة المقبلة هو في كيفية التأقلم والتكيّف وصناعة الظروف، لتجنب مصير الطوائف اللبنانية التي تعرضت لضربات قاسية قبل الشيعة، والصمود والعودة ولعب الدور ومنع التحجيم والتقزيم، في منطقة مقبلة على امتحان التغيير الكبير والواسع.