تواصلت "المدن" مع مجموعة من المستشرقين والكتاب الصحافيين والخبراء الروس بشؤون إيران والمنطقة، وطلبت منهم تقييم مشهد تشييع حسن نصرالله وتأثير غيابه على الوضع في لبنان والمنطقة.Kirill Semenov، مستشرق وخبير في المجلس الروسي للعلاقات الدولية RIAC، رأى أن المسألة ليست في رحيل حسن نصرالله بحد ذاته، بل في عجز محور المقاومة الذي تقوده إيران عن مواجهة إسرائيل. حزب الله لم يعد يشكل رادعاً لإسرائيل، وعلى إيران أن تفكر في التخلي عن وضعها من دون سلاح نووي. كل عوامل ردع إسرائيل السابقة لم تعد تجدي نفعاً، وقد كانت حماس أكثر إثارة للدهشة من حزب الله. فقد تمكنت حماس من البقاء والحفاظ على قدراتها العسكرية في ظروف مشابهة لفيلم Terminator، حرب البشر ضد الآلات. أما إيران وحزب الله، فعلى العكس من ذلك، فقد كانا أكثر هشاشة، وحتى الخسائر الضئيلة التي تكبدوها أجبرتهما على التراجع خطوة إلى الوراء. مشكلة حزب الله لا تتمثل في موت قادته، بل في عدم قدرته على تجاهل مطالب القوى السياسية الأخرى في لبنان. Igor Subbotin، الكاتب والمتابع لشؤون الشرق الأوسط في صحيفة NG الاتحادية، رأى أن مقتل نصرالله كان تتويجاً لعملية إضعاف حزب الله التي بدأت وسط تزايد النشاط الإسرائيلي في المنطقة. وقد أثبتت إسرائيل أن ليس لديها خطوط حمراء عندما يتعلق الأمر باستهداف قيادات الجماعات المعادية، ويمكنها تنفيذ عمليات متطورة تتضمن استخداماً متسلسلاً لقنابل خارقة للتحصينات. ورغم كل هذا لم تأت إيران لمد يد المساعدة العاجلة للجماعة التابعة لها.
يمكن النظر إلى جنازة نصرالله في حد ذاتها باعتبارها تأكيداً على فشل حزب الله في استعادة التنسيق على مستوى القيادة. فتأجيل الدفن لمدة خمسة أشهر هو تأخير طويل جدًا، حتى لو تم تفسيره ببعض المحاذير والتدابير الأمنية. ورفض نعيم قاسم حضور التشييع شخصياً دليل آخر على إفلاس قيادة حزب الله. فقد كان من الأفضل للحزب أن يحافظ أمينه العام على هدوئه ويأتي إلى الحفل لإظهار قوة الحزب.Mariana Belenkaya، مستشرقة وصحافية مستقلة غطت العام 2021 أحداث عين الرمانة، مندوبة إحدى كبريات الصحف الإتحادية الروسية Kommersant، وكانت لها مقابلات مع حزب الله وحزب القوات اللبنانية ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي.
تقول: تصفية حسن نصرالله ومحيطه المقرب منه على يد إسرائيل، كانت ضربة قاسية لحزب الله. ويصعب على الحزب إيجاد بديل لنصرالله الذي تسلم قيادته لأكثر من 30 عاماً، وأصبح رمز "محور المقاومة". وازداد الأمر صعوبة بفعل الخسائر العسكرية التي تكبدها حزب الله في الحرب مع إسرائيل والضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة والدول العربية عليه من خلال الرئيس اللبناني الجديد ورئيس الوزراء. وشكل مقتل قيادة حزب الله ضربة موجعة لنفوذ إيران في لبنان، لكن الضربة الرئيسية التي تلقتها كانت سقوط نظام الأسد، وليس مقتل نصرالله، إذ أن خسارة سوريا تجعل تلقائياً من الصعب على إيران التأثير في لبنان. إلا أننا لا نستطيع حتى الآن أن نتحدث عن نهاية حزب الله أو انهيار "محور المقاومة". فالوضع في الشرق الأوسط، يتغير كل يوم. وللزمن هنا معايير مختلفة، إذ غالباً ما تتحول الانتصارات إلى هزائم. وليس من قبيل الصدف أن تتحدث إيران عن "الصبر الاستراتيجي". وتطور الوضع يعتمد على عوامل كثيرة: الوضع داخل لبنان، هل سيكون من الممكن حل مشكلة "سلاح المقاومة" وإضعاف "حزب الله" على الساحة السياسية الداخلية اللبنانية؟ هل ستُستأنف الحرب في قطاع غزة؟ ماذا سيحدث مع إيران؟ ليس من إجابات على كل هذه الأسئلة حتى الآن. ولا يزال من غير المؤكد أن الحرب الأخيرة التي خاضتها إسرائيل مع حزب الله ستكون الأخيرة. في الشرق الأوسط، لا يمكنك أن تكون متأكداً من أي شيء على الإطلاق.لانا راوندی فدایی، من أب إيراني وأم روسية، مديرة مركز الثقافات الشرقية، متخصصة بدراسات تاريخ إيران الحديث والمعاصر في معهد الإستشراق الروسي. رأت الباحثة أن مقتل نصر الله شكل ضربة قوية للمشروع الإيراني في المنطقة. فقد كان حزب الله، بقيادة الراحل حسن نصر الله الدعم الرئيسي لإيران طوال هذه العقود الثلاثة، ليس فقط في حربها ضد إسرائيل، بل وأيضاً في دعم الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد. مقاتلو حزب الله هم الذين قدموا مساهمة كبيرة في استعادة الأسد السيطرة على مدينتي القصير والقلمون وشرق حلب (بمساعدة القوات الجوية الفضائية الروسية). لقد فقد حزب الله في سوريا 2000 قتيل و8000 جريح. ولكن العديد من المسلمين السنة في المنطقة، وخصوصاً المعارضة السورية، أدانوا التدخل، ويعتقدون أن حزب الله يقاتل من أجل أمن إسرائيل، وليس من أجل المصالح الإسلامية (أي من أجل الحفاظ على نظام الأسد، الذي لم يهاجم إسرائيل قط).وتقول: في العام الماضي اندلعت عمليات عسكرية خطيرة للغاية مباشرة بين حزب الله وإسرائيل، أدت إلى إغتيال حسن نصرالله الذي يعتبر شهيد المقاومة في إيران. وبشكل عام، فقد حزب الله قوته السابقة تحت الضربات الإسرائيلية، مما أدى إلى إضعاف كبير لموقف إيران في الشرق الأوسط وخصوصاً في لبنان. والجدير بالذكر أن عشرات الآلاف من الأشخاص حضروا تشييع حسن نصرالله في بيروت، في حين ابتهجت المعارضة السورية في إدلب بمقتل قيادات حزب الله، على الرغم من أن العديد منهم لديهم موقف سلبي تجاه إسرائيل. وهذا يعني، بين أمور عديدة، أن الخلاف السني الشيعي في الشرق الأوسط لا يزال على أشده.
على الأرجح، لن تتمكن إيران بعد الآن من استعادة قوة حزب الله السابقة، بغض النظر عمن سيتولى قيادته. فالحكومة السورية الجديدة لديها موقف سلبي تجاهه ولن تسمح للإيرانيين بتزويده بالمال والأسلحة عبر سوريا، كما كان الحال من قبل.Yulia Yuzik، الصحافية الروسية المستقلة والمتابعة النشطة للشأن الإيراني (أوجزنا سابقاً قصتها الشخصية مع الحرس الثوري)، رأت أن من المؤكد أن إيران كان بودها أن تستغل مقتل حسن نصرالله بالطريقة نفسها التي استغلت بها إغتيال سليماني، على أمل استخدامه كعامل توحيد للإيرانيين واللبنانيين ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.
للوهلة الأولى يبدو الأمر مستغرباً ومتناقضاً، استخدام تصفية الشخصيات الدينية في "محور المقاومة" لتعزيز محورك الخاص. لكن إذا قمنا بتحليل خوارزمية تصرفات طهران في العراق وفي جميع أنحاء المنطقة وتصرفات وكلائها بعد يناير/كانون الثاني 2020، فسوف يتضح أن آيات الله حاولوا تحويل الليمون إلى عصير: استخدام "شهدائهم" كعامل في تعزيز كل وكلائهم. ولكن إيران كانت محظوظة في ذلك الحين، إذ لم يعد ترامب إلى البيت الأبيض، بل حل بايدن مكانه. لكن بعد تصفية حسن نصرالله، عاد ترامب الذي لم ينس تهديد خامنئي بقتله. ترامب مشغول الآن بأوكرانيا وأوروبا، لكنه سيعود قريباً إلى إيران.كان ملفتاً الوفد الإيراني الذي شارك في التشييع في بيروت، إذ ضم رئيس البرلمان ووزير الخارجية وجنرالات من الجيش والحرس الثوري وغياب بيزيشكيان. وأثناء التشييع كانت المقاتلات الإسرائيلية تحلق بصورة إستعراضية في سماء لبنان. ووصف وزير الخارجية عباس عراقجي على منصة X تحليق الطيران الإسرائيلي بأنه عمل إرهابي وإختراق لسيادة لبنان. الرد الإسرائيلي جاء على الفور على الحساب الرسمي للمخابرات: "لقد سمحت لك إسرائيل بالحضور إلى بيروت اليوم. ابقى في مدرّجك يا عباس".
إذا أخذنا بالاعتبار وجود ترامب في البيت الأبيض وبقاء نتنياهو في السلطة، فالكرة في الملعب الإيراني في هذه اللحظة التاريخية. ولذلك، أفترض أننا سنشهد تغيّراً تدريجياً في لبنان لإضعاف حزب الله، أو بالأحرى إضعاف تأثير إيران عليه. حزب الله لن يكف عن الوجود، لكنه سيضعف بشكل كبير.Dmitry Bridge، الباحث ومدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، رأى أن تصفية حسن نصرالله شكلت نقطة تحول بالنسبة لإيران وشبكتها من الحلفاء. ولم يخسر حزب الله زعيمه الكاريزمي فحسب، بل خسر أيضاً استقراره الاستراتيجي. وبالنسبة للبنان، فإن هذه فرصة لإضعاف نفوذ الحزب والبدء في استعادة استقلاله. وفي الأشهر المقبلة قد نشهد احتمالين: إما أن يلجأ حزب الله إلى التصعيد للحفاظ على نفوذه، أو يواجه أزمة داخلية تضعفه. على أية حال، هذه المنظمة ليست كما كانت قبل عشرين عامًا.