يخضع الكاتب السوري منير (جورج خبّاز) لفحص وظائف الرئة في عيادة طبيب في هامبورغ. السبب: ضيق مفاجئ في التنفس. التشخيص: كل شيء على ما يرام. النصيحة: فقط استرخ. لكن منير يجد صعوبة في الاسترخاء. هناك شيء يثقل كاهله، حتى لو لم يستطع تحديده. تأتيه نوبات توتر وغمّ عندما يتحدث إلى والدته المريضة (نضال الأشقر) عبر الفيديو، وعندما يكون في السرير مع حبيبته سارة (لورا صوفيا لانداور)، وعندما لا يستطيع التفكير مرة أخرى في ما يكتبه. لا يستطيع منير تحمّل الأمر بعد الآن، فيقرّر الانعزال بعيداً إلى جزر هاليجن، شمالي ألمانيا، لإنهاء معاناته (يدسّ مسدّساً في حقيبته)، لكنه هناك يلتقي بمالكة النزل الصغير، فاليسكا (هانا شيجولا) وابنها كارل (توم فلاشيها)، اللذين يمدّان إقامته بشكل غير متوقع.الآخر ونحن. الآخر بداخلنا. الذاكرة، الجذور، خصوصاً عندما تعيش بلا جذور. بسيناريو وقصّة تحوم حول هذه التيمات والأسئلة، يصل أمير فخر الدين (33 عاماً) إلى منافسات المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي الـ75 بفيلمه "يونان"، ثاني أعماله، المولود تحت لواء كوزموبوليتانية قوية، كثمرة إنتاج مشترك بين فلسطين وقطر والأردن والسعودية وألمانيا وكندا وإيطاليا. عملٌ من تأليف كاتب شابّ متجذّر في ألمانيا ومولود في أوكرانيا لأبوين سوريين من مرتفعات الجولان المحتلّ، يتنقّل بين مواقع ألمانية وإيطالية وسورية. الطابع متعدد الجنسيات حاضر أيضاً في طاقم الممثلين الرئيسيين، حيث نرى اللبناني جورج خباز إلى جانب الأيقونة هانا شيجولا، الألمانية ذات الأصول البولندية، والفلسطيني علي سليمان، والألمانية ذات الأصول التركية سيبل كاكيلي."يونان" قصّة عالمية عن اللاانتماء، عن أرض لا تخصّ أحداً بعينه، حيث الغرابة في الغالب تكمن داخل الذات. في الواقع، يأخذ الفيلم إشاراته من أحداث منير، الكاتب السوري اللاجئ في هامبورغ ولا سبيل للعودة إلى وطنه، والذي يعاني مشاكل تنفسية. تبدأ القصة على وجه التحديد بزيارة طبية يبحث فيها منير عن إجابات لعدم ارتياحه الجسدي. لكن الأمر ليس شيئاً، كما يقولون. مجرد إجهاد. ضيق التنفس يظهر على الفور كنوع من الانفصال عن الحياة الكاملة. بالطبع، المنفى مرهق، والابتعاد عن الجذور ألمٌ يومي. لكن أزمة منير تتجاوز الجانب الفيزيولوجي المحض. فمكالمة هاتفية لعائلته البعيدة تعيده على الفور إلى الواقع القاسي المتمثل في مرض والدته، المصابة بشيء يشبه إلى حدّ كبير مرض الألزهايمر، عاجزة عن التعرّف على ابنها، أو التذكّر. فمع الذاكرة، بعد كل شيء، يختفي ثقل وجود الفرد. ولا يمكن إثبات ما هو عليه وما كان عليه إلا من خلال موارد الذاكرة. وبالنسبة للمنفي، فقدان الذاكرة يعني فقدان الاتصال بأصوله.يسهل الربط بين قصّة البطل منير وتجربة أمير فخر الدين، الذي أبعدته تجربته عن إمكانية الحفاظ على الروابط مع جذوره. الاغتراب المؤلم الذي يعيشه منير له علاقة وثيقة بمصير المثقف. فهو وحيد لحمله حساسية مختلفة، محبوس في تلعثم يصعّب عليه التواصل مع الآخر. عبارة افتتاحية في بداية الفيلم تذكّرنا بأنه حتى في أفضل حالات الترحيب المتبادل، يكمن خطر البقاء بعيداً من بعضنا البعض. وعلى خطى منير، المنطلق في رحلة بنيّة الانتحار، يروي "يونان" بالضبط لقاءه بالآخر باعتباره إمكانية للخلاص. يلجأ منير إلى هاليجن، جزيرة صغيرة في بحر الشمال معرّضة للفيضانات المتكررة. وهناك ينزل عند فاليسكا، سيدة مقتضبة يرافقها ابنها كارل، وهو من النوع الفظّ وغير المحبّب. عزلة، واختلاف، ولقاء/صدام مع واقعٍ مختلف تماماً عن واقعه...لا يقترح "يونان" مصالحة ميكانيكية مع الحياة، بل يُعبّر عنها بدلاً من ذلك في مسارٍ منيع مطبوع بالقلق، ويؤكّد عليه تعليق موسيقي نابض بالحياة. في المشهد الطبيعي لهاليجن وفي هشاشة هذه المناظر، يجمع فخر الدين أفضل دقائق الفيلم، مستوعباً القوة التعبيرية للطبيعة ككيان غير ثابت يغلي بالحياة، على النقيض تماماً من الاستسلام الذي وصل إليه منير، سجيناً لانعدام التواصل والاستقالة من الحياة. الآن، فريسةً فقدان ذاكرتها المستشري، تتذكّر والدة منير حكاية قديمة عن راعٍ أعمى وأصمّ وأبكم، يعيش معزولاً مع زوجته، المهمومة بدورها وتحمل عبئاً على قلبها لا يعرفه سوى زوجها والخِراف. باستمرار، يطلب منير من والدته أن تعيد عليه هذه الحكاية. إنها أثر في ماضيه العائلي، الذي هو أيضاً ماضٍ ثقافي. في العزلة التواصلية الكاملة التي يعانيها الراعي، يسهل تحديد ضعف الانفصال الذي يعيشه منير تجاه الآخر. لكن، في الوقت نفسه، يفتح اللقاء مع فاليسكا وكارل وبقية أفراد المجتمع في هاليجن بعض الاحتمالات. كما يُعاد اكتشاف الاتصال الجسدي، حتى في شكل قتال. بطبيعة الحال، كما تذكّره والدته في أحد المشاهد الحلمية العديدة (القصّة بأكملها تبدو غارقة في حلم/كابوس)، يرغب المثقف دائماً في شيء آخر، ويطمح إلى شيء آخر. يرافقه القلق دائماً. ومع ذلك، ربما ما زال العيش ممكناً."يونان"، الجزء الثاني من ثلاثية عن مفهوم "البيت/الوطن" بدأها فخر الدين بفيلمه "الغريب" (2021)، يتبع بطله إلى المستنقع حيث يشعر أنه عالق في الوقت والمكان. حركات الكاميرا بطيئة ومدروسة ومقيّدة مثل المشاعر المضغوطة خلف عينيّ منير، غير القادر على إخراجها، على الأقل في الجزء الأول من الفيلم. لأن نصفه الثاني تدور أحداثه بالكامل في جزر هاليجن، حين ستصبح معرفة فاليسكا أساسية لمواجهة شياطينه الداخلية وتلك القصّة الغامضة التي يبدو أنها تطارد عقله. "هل حاولت يوماً أن تفعل العكس؟ كل هذا الهواء، في النهاية، لا فائدة منه"، تقول فاليسكا لمنير أثناء معاناته نوبة هلع. دعوة للتخلّي، وإيقاف موتور السعي بأي ثمن للسيطرة على عالمٍ لا أفق له ( فكلّ أفق مصيره التلاشي)، مثل حلم يذوب مع الفجر.كان بإمكان أمير فخر الدين الانجراف وراء هذه الانعطافة، متابعاً بجزء ثان من الفيلم مطبوع بمناظر طبيعية رائعة ترغب العين في الضياع خلالها. بدلاً من ذلك، يبدو أن تسلسل الأحلام، المرتبط في الغالب بأمثولة الراعي وزوجته، عالق في الركود نفسه الغالب على يوميات للبطل. وبالتالي، تعكس نهاية "يونان" هذه المراوحة: من ناحية، هناك دفع لاغتنام اللحظة وعيش الحياة، ومن ناحية أخرى هناك ميل نحو التذكير بحتمية الموت.أخيراً، تجدر الإشارة إلى عنوان الفيلم المضلّل بعض الشيء. فلا علاقة لأي شيء يوناني بالفيلم وقصّته، بل يحيل العنوان إلى قصة توراتية تظهر أيضاً في القرآن عن يونس/يونان والحوت: بعدما استسلم النبي لموتٍ محتوم نجّاه الله من العاصفة في بطن الحوت. أمثولة عن الغفران في نهاية المطاف، والنجاة في أقل المواضع احتمالاً. مرآة رمزية أخرى لمقاربة حكاية منير ومأزقه الوجودي، في المنفى، بعيداً من أهله، من لغته، من وطنه وبيته الأول.