تحولت رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالسيطرة على غرينلاند - أكبر جزيرة على كوكب الأرض - وإلحاقها بالولايات المتحدة، من تصريح بدا كمزحة أطلقها أول مرة في العام 2019 إبان ولايته الرئاسية الأولى، إلى قضية أثارت جدلاً وسخطاً أوروبياً وأطلسياً واسعاً، عندما أعاد سيد البيت الأبيض الحالي طرح الفكرة مجدداً خلال حملته الانتخابية وكررها مراراً بعد تنصيبه ملوحاً باستخدام القوة، وآخرها الخميس الماضي في 20 شباط/فبراير الجاري.
أهداف ترامب الخفية
في الواقع، تعددت التكهنات والتحليلات والتأويلات حول الدوافع الرئيسية المحركة لطموحات الجيوسياسية للرئيس الأميركي للهيمنة على تلك القطعة الجغرافية "الشديدة البرودة" والمتمتعة بالحكم الذاتي، بالرغم من بعدها الجغرافي النسبي عن الولايات المتحدة، ووقوعها في القطب الشمالي وملكيتها للدنمارك.
من هنا، وبخلاف الاعتقاد السائد أن افتتان ترامب بغرينلاند مرده إلى أنها تشكل رصيداً عسكرياً رئيسياً لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، لا سيما وأن الجزيرة تُعدّ، واستنادًا للموقع الرسمي لقوة الفضاء الأميركية، "نقطة مراقبة في أعلى العالم تتيح التفوق الفضائي، وتدعم مهام الإنذار والدفاع الصاروخيين، ومراقبة الفضاء"، فإن هذا التفسير يبدو مستبعداً، لأن الدنمارك (أحد الأعضاء المؤسسين لحلف شمال الأطلسي والدولة التي سيطرت على غرينلاند لفترة طويلة)، ليس لديها مشكلة بترسيخ عملية التفوق للقوة الفضائية الأميركية التي يقودها ترامب على أراضي تلك الجزيرة.
بالمقابل، وفي حين رأى البعض أن السبب له علاقة بالموقع الاستراتيجي للجزيرة، ردّه آخرون إلى الاهتمام المتزايد للصين وروسيا بتلك المنطقة وبالمنافسة القائمة مع واشنطن على ثوراتها. وهذا صحيح، لا سيما وأنه وعند التدقيق في الاجندة الخفية لترامب هناك، نجد أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما تحتويه أرضها من كنوز، بحيث توصف بأنها "خزان من المعادن الثمينة والثروات النادرة".
إلى ماذا يسعى ترامب؟
عملياً، يريد ترامب تعزيز عملية استخراج المعادن الحيوية (في أي منطقة من العالم توجد فيها) لأنها تُعتبر ضرورية للصناعات الأميركية المختلفة من جهة، ولمعرفته أن الصين، عدوه اللدود، تتصدر الحملة العالمية للاستحواذ عليها من جهة أخرى.
وفي السياق ذاته، يدرك بالتأكيد، أن الولايات المتحدة تعتمد على بكين لاستيراد العديد من المعادن الهامة لصناعاتها، لا سيما أن حوالي 60% من المعادن اللازمة لتقنيات الطاقة المتجددة الأميركية تأتي مباشرة من الصين أو الشركات الصينية، بحسب موقع "TD Economics".
حتى أن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الصين، أثارت قلق صديقه (منتج السيارات الكهربائية) إيلون ماسك، الذي كان يعمل خلف الكواليس كي لا تطال الزيادة واردات الغرافيت الصيني - وهو مكون أساسي في بطاريات "الليثيوم أيون" المستخدمة في سيارات تسلا - والتي قد تصل إلى 920%، وفقًا لوكالة رويترز.
وعلى المنوال ذاته، أسالت تجارة المعادن الحيوية لُعاب كل من ترامب وصديقه ماسك، لا سيما بعد علمهما بالأرباح المالية الضخمة التي يمكن أن يجنياها من هذه التجارة. ففي عام 2022 وحده، حقق أكبر 40 منتجاً من هذه المعادن إيرادات بلغت حوالي 711 مليار دولار (استنادًا لموقع شركة "PricewaterhouseCoope"، أكبر شركات الخدمات المهنية في العالم). كما نمت الإيرادات الإجمالية للمعادن الحيوية بنسبة 6.1% بين عامي 2022 و2023، متجاوزة 2.15 تريليون دولار. ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 2.78 تريليون دولار بحلول عام 2027، والأرقام هنا تعود لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS".
ثروات غرينلاند بالأرقام
تشير الإحصاءات إلى أن جزيرة غرينلاند مليئة بالمعادن المهمة، بما في ذلك المعادن الأرضية النادرة مثل: الليثيوم والغرافيت والنحاس والنيكل والزنك وغيرها من المواد المستخدمة في التقنيات الخضراء، على ذمة وكالة رويترز.
وبالمثل، تكشف شركة "Benchmark Minerals" للتحليلات حول سلسلة الإمداد للمعادن الحيوية، أن غرينلاند لديها ستة ملايين طن من الغرافيت، و106 كيلوطن من النحاس، و235 كيلوطن من الليثيوم. كذلك، تحتوي الجزيرة على 25 من أصل 34 من المعادن المدرجة في القائمة الرسمية للاتحاد الأوروبي للمواد الخام الحيوية، وكلها موجودة على طول ساحلها الصخري، ويمكن الوصول إليها بشكل عام لاستخراجها.
عين ترامب على الغرافيت
في الوقت الحالي، في لعبة الشطرنج الجيوسياسية القائمة بين بكين وواشنطن، قد يكون معدن الغرافيت هو الأكثر قيمة من بين جميع المعادن الثمينة التي تقدمها غرينلاند. فمشروع "أميتسوك" للغرافيت في منطقة نانورتاليك بجنوب الجزيرة، يعتبر الجائزة الأكثر أهمية على الإطلاق، إذ إن أرباح هذا المنجم من المقدر أن تتجاوز 2 مليار دولار، وفقاً لشركة "GreenRoc Mining plc" المتخصصة باستكشاف المعادن بالجزيرة. إلى جانب ذلك، يتم هذه الأيام استخراج الغرافيت الكروي فقط في الصين، وهو يعد منتجاً حاسمًا لإنتاج بطاريات الليثيوم أيون.
وانطلاقاً من هذه الأهمية، تؤكد تقديرات شبكة "Innovation News"، أنه ومع ارتفاع مبيعات السيارات الكهربائية بنسبة 40% في الصين و25% على مستوى العالم، سيتعين تشغيل 100 منجم جديد للغرافيت وحده بحلول عام 2035 لتلبية الطلب الحالي، بحسب "Benchmark Source"، ومركز الأبحاث الدنماركي "Tænketanken Europa".
لذا، من غير المستغرب أن هذه الثروة المعدنية الهائلة جعلت من غرينلاند موضع اهتمام من الصين وروسيا، والرئيس ترامب أيضاً.
ولهذه الغاية، كتب ترامب على منصته "تروث سوشال"، أن :غرينلاند مكان رائع، وسيستفيد الناس بشكل كبير إذا، ومتى، أصبحت جزءاً من أمتنا". وأضاف "سوف نحميها ونعتز بها من عالم خارجي شرير للغاية. اجعل غرينلاند عظيمة مرة أخرى!".في المحصلة، ليست غرينلاند ومواردها سوى أحدث ضحية محتملة لسعي ترامب للهيمنة العالمية وخوفه من القوة الاقتصادية للصين، لا سيما أن ترامب وماسك ليسا الوحيدان اللذان لديهما اهتمامات محتملة في غرينلاند. إذ انضم إليهما هوارد لوتنيك، الذي اختاره ترامب لمنصب وزير التجارة، والأخير له حصة مالية في المنطقة. فشركة لوتنيك الاستثمارية (كانتور فيتزجيرالد) تمتلك شركة Critical Metals Corporation، التي من المقرر أن تبدأ استخراج المعادن الأرضية النادرة من غرينلاند بحلول عام 2026.