دقّت ساعة الحقيقة لدى بيئة المقاومة وجمهورها، فقد أقيمت أخيرا مراسم تشييع أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، حيث كان أكثرهم يرفضون تصديق خبر إستشهاده بالرغم من مرور خمسة أشهر على عملية الإغتيال الاسرائيلية الآثمة، وإستشهاد خلفه الأمين العام السيد هاشم صفي الدين.
أطل نعش السيد نصرالله وخلفه نعش السيد صفي الدين مسجيان على ظهر آلية حملت شعار “إنا على العهد”، وتزامن ذلك مع بث كلمات السيد حسن المحببة الى قلوب جماهيره وكأنه يحييهم ويخطب ودهم ويطيّب خاطرهم: “السلام عليكم يا أشرف الناس ويا أوفى الناس ويا أغلى الناس”، فإنفجرت جموع الناس المحتشدة في المدينة الرياضية وخارجها على طرقات بطولها وعرضها، صراخا وهتافا ورفع قبضات وسلامات وتحيات، وفاضت دموع العيون حسرة وأسى على قهر الفقدان ويقين الاستشهاد.
في مدينة كميل شمعون الرياضية شهد التاريخ على تشييع تاريخ، وكتب الموت شهادة حياة، فالسيد نصرالله الذي ضحى وبذل وقاوم وهزم إسرائيل وأربكها مرارا ودافع عن فلسطين وعن القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وربّى على مدار ثلاثة عقود أجيالا من الأبطال سطروا أروع الملاحم العسكرية في قرى الجنوب في حرب الـ66 يوما ومنعوا العدو الصهيوني من تحقيق أهدافه، لن يغيّبه مواراته في الثرى بمرقده الأخير، بل سيبقى الفكر والنهج والروح والكلمات والوصايا والتربية لقائد إستثنائي إستوطن القلوب وسكن وجدان البيئة وجمهورها والأصدقاء والحلفاء، وحاز على إحترام وتقدير الخصوم.
شكل مهرجان التشييع تواصلا تلقائيا بين الشعب والجيش والمقاومة الذين تعاونوا فيما بينهم على حسن التنظيم لإخراج هذا الحدث الكبير بأبهى وأجمل مشهد ومن دون أية شائبة أو إشكال أو حتى تلاسن، فتلاقى إلتزام الشعب بقدسية المناسبة مع التدابير الأمنية المشددة للقوى العسكرية مع جدية صارمة من الفريق التنظيمي في حزب الله، وأنتج إنسيابية في الدخول والخروج، وحسن تعاط مع المحتشدين على الطرقات والمحتشدين على المدرجات وعلى أرضية الملعب وجوانبه وممراته.
كما أن حرص رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام على إيفاد ممثلين لهما للمشاركة في تشييع سيد المقاومة، هو إعتراف واضح وصريح بحق هذه المقاومة وبشرعية عملها، وذلك بخلاف ما هو آت في البيان الوزاري الذي سترخي أجواء التشييع وهيبة المقاومة على جلسة مناقشته يومي الثلاثاء والأربعاء المقبلين.
ولا شك في أن هذا الحشد غير المسبوق ودقة التنظيم وتنوع الحضور والالتفاف الكبير حول المقاومة وسيدها الشهيد قد أزعج العدو الاسرائيلي الذي وجد نفسه عاجزا عن ممارسة إجرامه المعتاد وعدوانيته المعهودة، فاجتاح الأجواء اللبنانية وإخترق سماء المدينة الرياضية بأربع طائرات حربية لمرتين متتاليتين، مرة مع خروج النعشين لملاقاة الناس، ومرة خلال إلقاء أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم كلمته، ما يؤكد أن العدو الاسرائيلي شعر بهزيمة جديدة بالمشهد الحاشد، وبمراره فشل خطته في القضاء على المقاومة التي جددت نفسها ونظمت صفوفها، فأراد تعكير صفو التشييع وإخافة المشيعين بطائراته على علو منخفض جدا، لكنه لم يفلح في تحريك مشارك واحد عن مقعده، فيما رفعت الحشود الهتافات بالموت لإسرائيل، ولم يكتف العدو بذلك، بل نشر المتحدث بإسم الجيش الاسرائيلي أفيخاي أدرعي بالتزامن مع التشييع فيديوهات للحظة إغتيال السيد نصرالله لكنها لم تجد لها تأثيرا حيث إنشغل المحبون بحبيبهم وبإيصاله الى مرقده الأخير معاهدين إياه بـ “إنا على العهد باقون”..
بالرغم من كل الحزن الذي خيم على الأجواء، إلا أن مراسم التشييع حملت رسائل في إتجاهات عدة وكذلك كلمة الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، أبرزها:
أولا: أن المقاومة ما تزال بخير، وأن العدو الاسرائيلي فشل في مخططه الهادف الى سحقها والقضاء على حزب الله الذي قدم مشهدية جماهيرية غير مسبوقة بتنظيم دقيق قد تعجز عنه دول متقدمة.
ثانيا: أن البيئة ما تزال على عهدها في إحتضان المقاومة وفي دعم توجهاتها، وبالتالي فإن كل الأموال التي دفعت والجهود التي بذلت بالتزامن مع الحرب الاسرائيلية للتفريق بين المقاومة وبيئتها وتأليب جمهورها عليها قد باءت بالفشل وإنعكست وبالا على أصحابها ومموليها.
ثالثا: تدشين مرحلة جديدة بعد إستشهاد السيد حسن نصرالله من دون أي تبديل بالثوابت والمسلمات، لكنها تحاكي الواقع اللبناني وتحسن قراءته وتتعاطى مع حساسياته وتعقيداته إنطلاقا من مراجعة موضوعية للمرحلة الماضية.
رابعا: تأكيد الشيخ نعيم قاسم رهان حزب الله على الدولة والانضواء تحت سقفها، وترك الخيار الدبلوماسي يأخذ مداه، على أن تحكم المقاومة على النتائج، وذلك في رد واضح صريح على كل الاتهامات التي يطلقها الخصوم.
خامسا: التأكيد على أن المقاومة مستمرة وجاهزة للرد لكنها تعطي المجال واسعا للدولة للقيام بكل ما يلزم لإنسحاب إسرائيل من كل الأراضي اللبنانية ووقف العدوان والاستفزاز والالتزام بالقرار 1701.
سادسا: الاعلان عن نية المقاومة خوض الانتخابات البلدية ومن ثم النيابية ما يفتح أبواب التحدي أمام من يريد منافسة الثنائي (حزب الله وحركة أمل) في هذين الاستحقاقين وخصوصا الاستحقاق النيابي الذي يختزن مؤشرات سياسية هامة.
مرّ يوم أمس على خير ما يرام، وتركت المشهدية الجماهيرية أثرها في الجميع خصوما وحلفاء وأصدقاء في الداخل والخارج، وذلك في تأكيد على قوة حضور المقاومة وقيادتها وبيئتها وجمهورها وسيدها الشهيد الذي حاول الكثيرون تعطيل تشييعه على هذا النحو الشعبي، ما يؤكد أن السيد حسن نصرالله أخافهم حيا، وأربكهم شهيدا، وسيقض مضاجعهم بفكر ونهج مقاومين سيزهران مستقبلا أجيالا أشد تمسكا بالقضية وأكثر عداء لإسرائيل.
The post مشهدية جماهيرية إستثنائية في المدينة الرياضية.. التاريخ يشهد على تشييع تاريخ!.. غسان ريفي appeared first on .