يطرح وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داود أوغلو، رؤيته حول "إعادة بناء سوريا والانتقال من الثورة إلى التجديد"، وهي رؤية شاملة لمستقبل سوريا ما بعد الأسد، مركزاً فيها على قطاعات الحوكمة، والأمن، وإعادة الإعمار والتكاليف الاقتصادية للمرحلة المقبلة من وجهة نظر السياسة التركية. باعتباره المهندس الرئيس للسياسة الخارجية التركية، ومبتكر نظرية العمق الاستراتيجي وسياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار، فإن رؤية داود أوغلو تعكس تطلعات أنقرة الإقليمية الأوسع، ولا سيما تبنيه أفكار "العثمانية الجديدة" التي تنص على تحسين العلاقات بين تركيا والدول التي كانت يوماً ما تحت حكم السلطنة العثمانية. وبحكم تسلمه منصب وزير خارجية تركيا بين عامي 2009 و2014، ومعاصرته سنوات رخاء العلاقات بين أنقرة ودمشق، والتي تلتها سنوات قطيعة انتهت بسقوط نظام بشار الأسد، وبحكم اطّلاعه على ملف الثورة السورية منذ بدايتها حتى عام 2014 حين استقال من الحكومة؛ فإن الرؤية التي يقدمها اليوم حول سوريا ما بعد الأسد لا تختلف كثيراً عن تطلعات تركيا حول سوريا في عهد الأسد؛ مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما لا يمكن تحصيله بالدبلوماسية وتعديل السياسات و"شرب المرطبات"، يمكن تحصيله بالقوة والتحالفات. وعلى ذلك، فإن أطروحة أوغلو الجديدة تثير تساؤلات جوهرية حول الدور الفعلي لتركيا، ومصالحها كدولة ضامنة في سوريا اليوم، وإمكانية تحقيق الإطار الذي يقترحه على أرض الواقع.منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، اتسمت سياستها الخارجية بالحذر والبراغماتية، إذ تجنّب قادتها الانخراط في النزاعات الإقليمية غير المستقرة، معتبرين أن المكاسب المحتملة ضئيلة مقارنة بالمخاطر الكبيرة. وعلى مدار عقود، ظلت السياسة الخارجية التركية مترددة، تابعة في معظم الأحيان للولايات المتحدة وحلف الناتو، ومستجيبة للأحداث أكثر من كونها مبادرة. حتى على مستوى علاقاتها مع دول المنطقة، لم تكن تركيا فاعلة بما يكفي ليقال بأنها صانعة قرار سياسي في الشرق الأوسط. أما خلال العقدين الأخيرين، فشهدت السياسة الخارجية التركية تحولاً ملحوظاً نحو نهج أكثر فاعلية واستباقية، يهدف إلى توطيد العلاقات مع دول مثل سوريا وإيران وروسيا، وتعزيز مكانة تركيا كفاعل محوري في الجغرافيا السياسية في المنطقة.غير أن هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل جاء نتيجة تطورات اقتصادية وجيوسياسية طويلة الأمد. فقد ساهم كل من السياسي الليبرالي تورغوت أوزال (1983-1993)؛ والدبلوماسي القديم إسماعيل جِم (1992-2002)، في وضع أسس النفوذ الإقليمي التركي؛ كما أدت نهاية الحرب الباردة وصعود قوى اقتصادية جديدة، مثل دول "بريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين) و"ميكت" (المكسيك، إندونيسيا، كوريا الجنوبية، تركيا)، إلى محاولات لإعادة تشكيل النظام العالمي، مما أتاح لتركيا فرصة لتعزيز دورها الدولي. وكان النمو الاقتصادي المتسارع خلال العقد الماضي والانفتاح الإعلامي والاجتماعي والثقافي (كالإنتاج التلفزيوني ومنصات الإعلام) على دول المنطقة عاملاً رئيسياً في تمكين أنقرة من توسيع نفوذها الدبلوماسي والتجاري، ما عزز من أدوات قوتها الناعمة ووصولها بحق إلى دول الشرق الوسط ودول البلقان، والتي كانت يوماً من أملاك الدولة العثمانية. برزت ملامح هذا التحول في لعب تركيا دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل، ومساعي أنقرة لتعزيز السلام في البلقان والقوقاز، ومحاولات التفاوض على اتفاق نووي مع إيران عام 2010 بالتعاون مع البرازيل. ومع ذلك، سرعان ما اصطدمت هذه السياسة بتحديات الثورة السورية؛ فتبنّت موقفاً حاداً ضد نظام بشار الأسد، مقدّمة دعماً مفتوحاً للمعارضة المسلحة، بما في ذلك بعض الفصائل الإسلامية المتشددة، ما أدى إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار وكشف عن نقاط ضعف استراتيجية في رؤية داوود أوغلو.أدى هذا النهج إلى انحياز تركيا لمحور إسلامي سُنّي في مواجهة النفوذ الإيراني الشيعي، وهو ما عكس تحوّلاً في تموضعها الإقليمي. كما أخطأ داوود أوغلو في تقدير سرعة سقوط الأسد، فيما أدت سياسات أنقرة الحدودية المفتوحة إلى تصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم "داعش"، ما وضع تركيا في مأزق أمني خطير. وفي الوقت نفسه، تزايدت التوترات الداخلية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الكردية وحزب العمال الكردستاني، مما عمّق حالة عدم الاستقرار الإقليمي والفوضى العسكرية التي قادت تركيا إلى تنفيذ ثلاث عمليات عسكرية أمام التحدي الكردي في شمال شرق سوريا، كان أهمها عملية درع الفرات ونبع السلام.ورغم التحوّل في الخطاب السياسي التركي، فإن الاتجاه العام لسياستها الخارجية لم يشهد قطيعة حقيقية مع الماضي. فمنذ عام 1983، ظلت أنقرة مرتبطة بالمنظومة الغربية، معتمدة في سياساتها على تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة. وفي حين أن داوود أوغلو حاول بلورة رؤية طموحة لدور تركيا الإقليمي، فإن العديد من مبادراته افتقرت إلى التخطيط الاستراتيجي العميق، مما جعل السياسة الخارجية التركية تظل، في جوهرها، امتداداً للمصالح الغربية في المنطقة أكثر من كونها تحوّلاً جذرياً نحو نهج مستقل.أما اليوم، يبني داود أوغلو طرحه حول سوريا على سبع مرتكزات: التناغم الثقافي-السياسي، إعادة التأهيل الاجتماعي، الاستقرار الجيوسياسي، الانتعاش الاقتصادي، الشرعية الدستورية، التماسك المؤسسي، والاندماج الإقليمي-العالمي. تهدف هذه العناصر مجتمعةً إلى دعم قيام سوريا ديمقراطية ومستقرة، يتم تحقيقها من خلال إنشاء جيش وطني شامل وهيكل حوكمة متوازن Good Governance. غير أن الدور التركي في تشكيل هذه الرؤية يتجاوز الاعتبارات الإنسانية أو الأيديولوجية، ليعكس مصالح أنقرة الجيوسياسية والأمنية بالدرجة الأولى؛ لا سيما فيما يتعلق بموضوع اللاجئين وموضوع المناطق العازلة وآلية العمل فيها؛ لا سيما وأن قضية عودة اللاجئين، التي يوليها داود أوغلو اهتماماً خاصاً، تواجه تحديات أمنية ولوجستية جسيمة. إذ يخشى العديد من اللاجئين السوريين من الاضطهاد أو عدم الاستقرار عند عودتهم، ومن دون ضمانات حقيقية تتعلق بالأمن وفرص الدخول إلى عمليات الانتاج الاقتصادية والإدماج السياسي، وبالتالي يجب أن تبقى العودة الطوعية مضمونة ومرعية وفق القوانين الإنسانية.الأمن والعسكرةتحافظ تركيا على وجود عسكري نشط في شمال سوريا، حيث تدعم فصائل "الجيش الوطني" وتعمل على تحييد الجماعات الكردية التي تعتبرها تهديداً. وعلى الرغم من خطاب داود أوغلو حول السيادة السورية والشمولية، فإن تحركات أنقرة _بما في ذلك التوغلات العسكرية وتأثيرها على هياكل الحكم في المناطق الخاضعة لسيطرتها_ تكشف عن نهج استراتيجي يهدف إلى تعزيز نفوذها في سوريا ما بعد الأسد، وعن تطلعات أنقرة نحو إرساء علاقات عسكرية إلى جانب العلاقات الدبلوماسية مع القيادة الجدية التي سارعت إلى زيارة أنقرة في خطواتها الأولى.يشدد داود أوغلو في أطروحته على إنشاء جيش وطني سوري موحد، يدمج قوى المعارضة المسلحة التقليدية وعناصر من جيش نظام الأسد السابق؛ يتماشى هذا الطرح مع السياسة التركية الداعمة للفصائل العسكرية، لكنه يواجه تحديات كبيرة بسبب المشهد السياسي والعسكري السوري المجزأ والعقبات اللوجستية والإدارية المتعلقة بإعادة تأهيل ضباط من جيش نظام الأسد، وتسليمهم مناصب في جيش سوريا الجديد، مع تجاهل لفكرة العدالة الانتقالية وأسسها والاستفادة من البرغماتية العسكرية، بالإضافة إلى وجود عدد لا يستهان به من الضباط المنشقين الذين لم تبدأ تسوية مخصصة لهم حتى اليوم ويبقى وضعهم عائماً. ويذهب داود أوغلو إلى أن تركيا يمكنها قيادة جهود الإعمار الاقتصادي والاندماج الإقليمي لسوريا مع تجاهل عقبات كبرى، تبدأ بكون المجتمع الدولي لا يزال منقسماً بشأن مستقبل سوريا بعد الأسد، وماهية الإدارة الجديدة ومدى التزامها بالإصلاحات المقترحة من الدول الأوروبية وصندوق النقد الدولي وغيرها، كما أن التحديات الاقتصادية التي تواجهها تركيا نفسها قد تعيق قدرتها على تحمل أعباء إعادة الإعمار. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأولويات الأمنية لأنقرة مثل مواجهة وحدات حماية الشعب الكردية والسيطرة على الحدود تعقد دورها كوسيط محايد في إعادة بناء سوريا، وتجعلها تسعى إلى حل مسألة الاكراد قبل أي تدخل في إصلاح البيت السوري.القيود الإقليمية والدوليةلن يتحدد نفوذ تركيا في سوريا ما بعد الأسد بناءً على طموحاتها فحسب، بل أيضاً وفقاً لردود الفعل المتعلقة بالإحداثيات الجيوسياسية للقوى الإقليمية والدولية الأخرى؛ فمن المرجح أن تعارض كلٌّ من روسيا وإيران _ بصفتهما القوّتان الداعمتان الرئيسيتان لنظام الأسد المخلوع، أي إطار تركي لإعادة هيكلة النظام السياسي والعسكري في سوريا. تمتلك كل من إيران وروسيا مصالح كبيرة في سوريا على اعتبار أن سوريا كانت الواجهة لإيران أمام تحدي إسرائيل، ووجودها ضمن محور المقاومة مهم إلى حد كبير؛ من خلال العناصر التابعة لها والتي كانت إلى ما قبل 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، تستحوذ على عدد كبير من النقاط العسكرية، وتتحكم بالفرقة الرابعة بأكملها. أما بعد سقوط نظام الأسد فإنها أصبحت تنفذ عمليات على الحدود السورية اللبنانية وتهدد أمن الحدود، لا سيما بارتباط بعضها بقادة عمليات التهريب في المنطقة، بالإضافة إلى شبكاتها الاقتصادية والدينية التي تمنحها تأثيراً طويل الأمد في سوريا. ستجد تركيا صعوبة في تقليص الوجود الإيراني في سوريا، خاصة مع موقف موسكو غير الحاسم تجاه طهران، مما يجعل المواجهة التركية-الإيرانية في سوريا احتمالاً وارداً، الأمر الذي بدأ بالفعل عبر تنفيذ ضربات ضد عناصر من حزب الله على الحدود اللبنانية السورية في ريف حمص الغربي.وبالنسبة لروسيا فوجود القواعد العسكرية في كل من اللاذقية وطرطوس مهم جداً كموطئ قدم على ساحل المتوسط والمياه الدافئة كحلم للإمبراطورية الروسية. فوجودها في الشرق الأوسط يسهل عليها مهام كثيرة أمام المعسكر الغربي المتوغل في المنطقة. رغم التنسيق بين أنقرة وموسكو في إدارة الوساطات الدبلوماسية والعمليات العسكرية خلال سنوات الثورة السورية، إلا أن العلاقة بينهما تتسم بمزيج من الشراكة والتنافس والتناحر، لا سيما وأن تركيا تبقى بشكل أو بآخر محسوبة على المعسكر الغربي بتحالفاتها العسكرية والاقتصادية. فبينما تسعى روسيا إلى الحفاظ على نفوذها الاستراتيجي عبر قواعدها العسكرية في سوريا، وضمان وساطتها لإدماج عناصر من النظام السابق في أي حكومة جديدة، ستعمل تركيا على تعزيز حضورها في المشهد السياسي والعسكري السوري، مستندة على ذلك بقوتها مع حلف الناتو، مما قد يخلق نقاط احتكاك مع موسكو وهو ما ليس بمصلحة روسيا كونها فقدت شرعية وجودها على أراضي سوريا بعد سقوط بشار الأسد الذي استنجد بها عام 2015، حين خسر حوالي 60 في المئة من الأرض السورية لصالح قوى المعارضة المسلحة.لن تكون سوريا ما بعد الأسد تحت هيمنة قوة واحدة، بل ستظل ساحة تنافس إقليمي ودولي معقدة. وبالرغم من أن تركيا ستكون لاعباً رئيسياً، إلا أن نفوذها سيظل محكوماً بتوازن القوى مع روسيا وإيران والغرب، مما يجعل مستقبل سوريا مرهوناً بتفاهمات إقليمية ودولية أكثر منه بتحركات منفردة لأي طرف. بينما يقدم داود أوغلو رؤية منظمة ومتفائلة لمستقبل سوريا بعد الأسد، إلا أنه يقلل من تعقيد الانقسامات الداخلية في البلاد، والتنافس الجيوسياسي حول مصيرها، والقيود التي تواجهها تركيا نفسها. وبدلاً من تبني دور المهندس الأساسي لتجديد سوريا، قد تجد أنقرة نفسها مضطرة إلى اتباع نهج أكثر تعددية، يعتمد على التعاون مع القوى الإقليمية والمؤسسات الدولية لضمان مستقبل مستدام وشامل ومستقر لسوريا.