لم يكن تشييعاً عادياً. وليس هو بالتأكيد "دفن" لشخص. بل هي مرحلة كاملة أريد لها أن توارى الثرى معه. مرحلة من تاريخ لبنان، والمنطقة. مرحلة شهدت الكثير من التحولات والصراعات، شارك الرجل في صناعة بعض أحداثها، ومواكبة البعض الآخر، والتأثير بغيرها. كان الزحف الكبير مختلفاً هذه المرة بالنسبة إلى جماهير المؤيدين والمناصرين والمريدين. هم الذين زحفوا إليه كثيراً في "احتفالات الانتصار" أو في المسيرات العاشورائية، أو في التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، واكبوه إلى مثواه الأخير، مع طي صفحة من عمر البلاد. إنه "الوجع الشيعي" والذي خبرته الطوائف اللبنانية كلّها. منذ ما قبل ولادة لبنان الكبير، بدءً من حرب البشيرين في الـ1820 إلى حرب الـ1840 و1860، إلى ما بعد الاستقلال وصراع الأحلاف، في الخمسينيات والستينيات، إلى الحرب الأهلية وما بعدها، وصولاً إلى ما بعد الطائف وحرب الاغتيالات، ومؤخراً.
تغيير الخرائط والهويات
لكل طائفة نكبتها. كما كان لكل طائفة دولتها أو مرجعيتها أو قنصلها. نتجت عن الحرب الإسرائيلية الأخيرة نكبة للطائفة الشيعية، على مستويات مختلفة عسكرياً، سياسياً، قيادياً، إعمارياً، اجتماعياً واقتصادياً. وهي بطبيعة الحال نكبة لبنانية ليست بعيدة عن نكبة العرب الذين يواجهون مشروعاً متجدداً للتهجير وتغيير الخرائط والهويات. خَبِرَ اللبنانيون معنى الصراعات والاغتيالات، تعايشوا مع الفقد، وفي كل مرّة كانوا ينظرون إلى نافذة أو أفق، لكن الحرب الأخيرة في المنطقة، وعلى لبنان ستكون مختلفة. وهي بالتحديد المرحلة الجديدة التي تدخلها البلاد والدول المحيطة. إنها أكثر المرّات التي تكون فيها إسرائيل بهذا التفوق العسكري، التقني، والسياسي، وأكثر المرات ذات الدعم الأميركي الواضح، بلا أي مراعاة للعرب أو اللبنانيين، وبلا أي سند آخر أو جهة أخرى. الاغتيالات الكبرى
لطالما شكّل الدم عناصر الدعم والتحشيد لدى الطوائف. ولطالما سعى المنكوبون في اغتيال الرمز، بالتحلق حول الوريث وشد العصب بحثاً عن انطلاق جديد. فيتجلى الصراع الأزلي بين منطقين، منطق أن الاغتيال يأتي ثماره لاحقاً ويحدث التحول. ومنطق أن الاغتيال لم ينجح في فرض وقائع جديدة أو تحولات سياسية. غالباً ما ينتصر المنطق الأول على الثاني. فكان اغتيال كمال جنبلاط محطّة فرح لها خصومه السياسيين والطائفيين، انتهت معه الحركة الوطنية ودخل لبنان في دوامة الاقتتال الطائفي. اغتيل كمال جنبلاط في ظل تحولات وحسابات إقليمية دولية أخرجته من المعادلة، بعد مواجهته المباشرة والقاسية مع حافظ الأسد، والذي كان متعهّد إدارة سوريا والجوار في السبعينيات، وما تلاها. تبدّلت الحسابات وتغيّرت الظروف إلى لحظة اعترف فيها الأسد الأب لجنبلاط الإبن بأن والده كمال كان على حقّ. رقص حافظ الأسد على رؤوس الثعابين، من كيسنجر في السبعينيات، إلى السوفييت ما بعد كامب ديفيد، ومن ثم عاد إلى أميركا مع حرب الخليج الثانية، وبقي على حبل الودّ مع العرب وإيران. مثله فعل وليد جنبلاط، الذي مشى على حبال مشدودة ليعبر ولا يزال، يناور بين الأفخاخ والألغام.
خسر المسيحيون بشير الجميل، بكل ما كان يمثله من عنفوان ويشكّله من رمز. نُكب المسيحيون في عملية الاغتيال، والتي جاءت بعد استشعارهم للحظات الانتصار بنتيجة انكسار الحركة الوطنية وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وبعد انتصارهم الأكبر في انتخاب بشير رئيساً للجمهورية. كان بشير رئيساً بلا رئاسة، اجتمع من حوله المسيحيون بدافع الرغبة أو القوة أو بالبندقية. ما بعده، جاءت لحظة الانكسار، والتي فرح لها الخصوم ولا سيما الذين كانوا قد نكبوا باغتيال كمال جنبلاط. تشظّى المسيحيون، ودخلوا في الصراعات البينية التي دمّرت "الشرعية والشرقية". ولم يستفيقوا من تلك الضربات بعد.
باغتيال جنبلاط والجميل، دخل طرفا الانقسام اللبناني في صراعات داخلية، هؤلاء في الغربية، والآخرون في الشرقية. إلى أن حانت لحظة إلقاء السلاح، أوقفت الحرب. دخل لبنان في حقبة التسوية، ونظرية الأرض مقابل السلام. انفجر المشروع بعد أحداث 11 أيلول، اغتيل رفيق الحريري، فنُكب السنّة بخسارة زعيمهم، وانتهت مرحلة، ليتجدد الانقسام اللبناني على طريق مشروع الانهيار. كانت نكبة السنّة هي الأعم على مستوى المنطقة، من اجتياح العراق إلى اغتيال ياسر عرفات ورفيق الحريري وصولاً إلى الحروب المضادة التي تعرضت لها ثورات الربيع العربي، وخصوصاً في سوريا. تشظّت كل المشاريع الوطنية. نتج عن الاغتيال تحالف عريض وثورة عابرة، لم تكتمل، لم تتحقق نتائج الاغتيال سريعاً، فقد كان هناك جهة ما استند عليها من تيتم باغتيال الحريري.
نصرالله..
بعدها دخل الشيعة عصر أطلق عليه أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله صفة "عصر الانتصارات". ترجمه في لبنان، وسوريا والمنطقة ككل. إلى أن تفجّرت الحرب الأخيرة، فنُكب الشيعة اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً، وكانت نكبتهم الأكبر في خسارة الرجل الرمز. الذي تقاطروا إلى وداعه من كل الجهات، وهم لا يريدون وداع الحالة ولا المرحلة. لكنها مرحلة جديدة، ليس فيها طرفان، أو قوتان، بخلاف ما كان عليه الوضع في الثمانينيات، حيث استند البعض إلى الاتحاد السوفييتي، أو سوريا في تلك الفترة. أو حتى ما بعد العام 2005، حيث كان الانقسام بين محورين بأبعادهما الإقليمية والدولية، ما شكل بعضاً من التوازن. الآن انقلب الميزان، فالمرحلة الجديدة لها إدارة وحيدة: أميركية إسرائيلية. ولا قدرة لأحد على المواجهة في المدى المنظور بالحدّ الأدنى.
ليس لبنان وحده في قلب هذه المعادلة، وهو الذي لا يمكن فصله عن الإقليم بتطوراته وتحولاته. وهو في مواجهة دفتر شروط واضح، إما أن يستجيب له أو تستمر النكبة على مستويات مختلفة، عسكرياً، وسياسياً ومالياً واقتصادياً. شروط أراد حزب الله بقوة مشيعيه القول إنه يمتلك تعديلات عليها، فهو يريد وقف الحرب، لكن الاتفاق يسري على جنوب الليطاني فقط، ويريد التمسك بالسلاح وبخيار المقاومة والمشاركة في "بناء الدولة" ضمن سياق المسار الجديد، على قاعدة أنه لا يمكن لأحد أن يتجاوزه أو يتخطاه، وأن هذه الجموع ستبقى في حرب "الوجود" و"كسر الحصار". ما جرى هو دفن لمرحلة، من دون اتضاح أفق المرحلة الجديدة.