من المغري تصوّر سيناريو أن يستيقظ السوريون في صباح أحد أيام مطلع آذار/مارس المقبل على خبر تكليف رجل الأعمال السوري- البريطاني، أيمن أصفري، بتشكيل الحكومة السورية الجديدة.
وقبل الخوض في غياهب هكذا سيناريو، لا بد من الإشارة إلى النفي المتداول لهذا الاحتمال، نقلاً عن مصادر مقرّبة من أصفري نفسه. لكن انفتاح مسؤولي الإدارة السورية الجديدة في دمشق على رجال الأعمال السوريين، ولقاءاتهم المتكررة معهم، أنعشت تصوّرات مبنية على هذا السيناريو. سيناريو أن يتولى تشكيل الحكومة المرتقبة، رجل أعمال سوري من طراز رفيع.يمكن أن نقول، بالفم الملآن، إن كثيراً من الآتي في سوريا يتوقف على تركيبة الحكومة المقبلة، وهامش استقلاليتها. ونتفق في ذلك مع تصريح المبعوث الأممي الخاص بسوريا، غير بيدرسن، الذي قال مؤخراً إن تشكيل حكومة شاملة خلال الأسابيع المقبلة سيساعد في تحديد ما إذا كان سيتم رفع العقوبات الغربية في ظل جهود إعادة الإعمار. وفيما نتوقع أن بيدرسن يقصد أن تتضمن الحكومة المأمولة شخصيات ممثلة لمختلف مكونات الطيف السوري، تماشياً مع مطالب دول غربية وأطراف إقليمية، نضيف من جانبنا، البعد الذي لا يقل عن ذلك أهمية، وهو أن تتضمن تلك الحكومة شخصيات تملك القدرة على وضع سوريا على سكة التعافي من القاع الاقتصادي السحيق الذي وصلت إليه.
وإن أردنا تصوّر المُنتَظر لتركيبة هذه الحكومة، فسنكون أمام أربعة سيناريوهات، لكل منها إيجابياتها وسلبياتها، بطبيعة الحال. ولنبدأ بأكثر السيناريوهات طموحاً، ذاك الذي لفتنا إليه في مطلع مقالنا، أن يقود الحكومة المقبلة، رجل أعمال من وزن أيمن أصفري، أو وليد الزعبي، أو موفق قداح، أو أنس الكزبري، أو أي اسم آخر من أسماء كبار المطوّرين العقاريين والمستثمرين الصناعيين والماليين السوريين الناشطين على المستوى الإقليمي أو الدولي. وتتوقف فاعلية هكذا سيناريو، على مقدار الهامش الذي سيتمتع به رئيس الحكومة في اختيار تشكيلة الوزراء العاملين معه من جانب، وفي إدارة المشهد الاقتصادي السوري بأريحية كبيرة، من جانب آخر. فإن لم يتحقق هذان الشرطان، فلن يكون من معنى لتولي رجل أعمال من الوزن الثقيل، لرئاسة الحكومة. أما إن تحققت هذه الشروط، فإننا قد نكون أمام قفزة نوعية إلى الأمام، عبر فتح أبواب أكبر نحو الغرب ودول الإقليم على الصعيد الاقتصادي- الاستثماري، والسياسي، في آن. كما أن لهذا السيناريو، انعكاسات ذات احتمالية مرتفعة، على صعيد توافر حياة سياسية نشطة في سوريا. ذلك أنه من الصعب تشكيل تكتل صلب من رجال الأعمال، وسيكون التنافس بينهم، في مجال الاستثمار، وانعكاساته السياسية، رافعة لحرية صحافية واعدة وتنافس حزبي، من طراز ذاك الذي كان قائماً في سوريا، في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، حينما انقسمت البورجوازية السورية بين حزبَي الشعب والوطني، وتنافسا على السلطة، بأدوات سياسية اعتمدت المساومات والحلول الوسط، مع فعالية كبيرة لأثر صندوق الاقتراع. في مقابل إيجابيات هذا السيناريو، له ما له من سلبيات، قد يكون أبرزها، ذات السلبية التي عانى منها السوريون في خمسينات القرن الماضي، وهي عدم الاستقرار السياسي، وتدخل العسكر في السياسة عبر الانقلابات المتتالية، متذرعين بصراعات الساسة من الطبقة البورجوازية. وهذه السلبية تملك احتمالية مرتفعة للتحقق اليوم، أيضاً. أما إن انحرف هذا السيناريو باتجاه مختلف، فقد نجد أنفسنا أمام تحالف سلطوي مكوّن من الأثرياء برفقة الممتلكين للنفوذ العسكري والأمني. أي سنكون أمام "أوليغارشية" قد تعيد إنتاج ذات النتائج التي عشناها في عهد النظام المخلوع. أما إن ذهب هذا السيناريو إلى أقصاه المطلق، وامتلك رجال الأعمال الأثرياء اليد العليا في السلطة، على حساب العسكر، فقد يتشكّل حينها حكم "بلوتوقراطي". أي حكم القلّة الثرية بصورة مباشرة. ولهذا الصنف من الحكم، آثار اجتماعية سلبية على المدى البعيد. لكن دعونا لا نذهب بتخيلاتنا إلى هذا الحد، فسيبقى للعسكر كلمتهم في سوريا، في السنوات القليلة المقبلة، من دون شك. وقد تكون الأولوية، والتحدي الأكبر، اليوم، هو لجم نفوذ العسكر في السياسة والاقتصاد، وحصر أدوارهم بالجانب الأمني.لذلك، فإن سيناريو آخر، طموح أيضاً، لكنه أقل إطلاقاً لناصية الخيال، قد يقودنا إلى حكومة تكنوقراط. التحدي الأكبر لنجاح هكذا سيناريو، هو أن تكون حكومة التكنوقراط تلك، هي الحاكمة فعلاً. بمعنى، ألا نعيش التجربة ذاتها التي عشناها في عهد الأسدين، حينما كان يتم الإتيان بشخصية فنية رفيعة المستوى، من الخارج -من البنك الدولي مثلاً، أو من إحدى المؤسسات البحثية الدولية- ليتم تسليمها موقعاً وزارياً هاماً، قبل أن يتم تقييدها، بتدخلات شبه يومية من المتنفذين في السلطتين الأمنية والعسكرية. أن تتمتع حكومة التكنوقراط من الفنيين المتخصصين، باستقلالية عالية عن السلطة السياسية- العسكرية- الأمنية، هو الضمان لفاعلية هكذا حكومة. وهي ستكون قادرة بالفعل، على وضع البلاد على سكة التعافي.
أما السيناريو الثالث، فهو الذهاب إلى حكومة ظاهرها تكنوقراطي، وباطنها أقرب للمحاصصة، بمضمون طائفي وفصائلي، بغية تلبية مطالب الخارج بتمثيل كافة مكونات السوريين من جهة، وتلبية مطالب الحلفاء في السلطة بتمثيلهم جميعهم في تركيبة الحكومة، من جهة أخرى. وهي وصفة مجرّبة في العراق ولبنان، ونتائجها جليّة في البلدين. ونراهن أن إدارة الرئيس أحمد الشرع، لن تذهب بهذا الاتجاه، وفق تصريحات مباشرة من مسؤوليها، تكشف أنهم يدركون خطر التورط في لعنة المحاصصة. وإن كانت المخاوف تبقى مبررة، بناءً على المحاصصة الجلية في توزيع مناصب المحافظين على شخصيات تمثّل الفصائل الحليفة للفصيل الرئيس في السلطة.أما السيناريو الرابع، فهو الذهاب إلى حكومة ظاهرها تكنوقراطي، وباطنها يمثّل النواة الضيقة في رأس هرم السلطة القائمة اليوم في دمشق.. على غرار الحكومة القائمة حالياً، المستنسخة من حكومة "الإنقاذ" في إدلب. هكذا سيناريو، حتى لو طُعّم ببضع شخصيات من خارج هذا "اللون الواحد"، يعني أن السلطة القائمة لم تفهم حجم التحدّي المتمثّل في إدارة بلدٍ كسوريا، وبالحالة التي هي عليها اليوم. وبطبيعة الحال، سيكون لهذا السيناريو نتائجه السلبية الكبيرة في مدى زمني قريب.
من جانبنا، نعتقد أن السيناريو الثاني، حكومة التكنوقراط، هو الأقرب للتحقق بناء على المعلومات المتاحة عن اللقاءات مع خبراء ورجال أعمال سوريين، والتي توحي بإدراك السلطة الحالية أن التحدي الاقتصادي السوري أكبر من قدرات "فريقها المنسجم". ومن جانب آخر، سيناريو حكومة التكنوقراط، هو الأكثر واقعية. إذ نستبعد أن تكون السلطة القائمة على استعداد لإشراك شخصيات في دائرة صنع القرار، من طراز رجال الأعمال السوريين ذوي الوزن الإقليمي أو الدولي.
وفي الختام، لا يمكن لحكومة التكنوقراط، أو أي حكومة أخرى مقبلة في سوريا، أن تفعل الكثير، إلا إن توفر شرط أساسي، غاب تماماً عن كل حكومات سوريا ورجالاتها، في عهد الأسدين. وهو هامش استقلالية مرتفع، في مواجهة الممسكين بالقوة العسكرية والأمنية في البلاد.