قبل اثني عشرة سنةً من اليوم، دخل رئيس أساقفة بوينس أيرس يورخي ماريو برغوغليو كنيسةً شيّدها البابا الرومانيّ سكستوس الرابع بين العامين 1473 و1481، ورسم جداريّاتها المتلامعة كموائد الضوء ميكالانجلو العظيم. دخلها وخرج منها حَبراً على الكنيسة الكاثوليكيّة، ورأساً لأقدم مؤسّسة في العالم. وحين خاطب الناس في إثر انتخابه، اختار أن يتلقّب بلقبه الأعرق والأقرب إلى الحسّ الكنسيّ السليم. فأخبرنا أنّ إخوته الكرادلة أتوا به من أقصى أنحاء المعمورة (طبعاً من وجهة نظر الذين يعيشون في القارّة القديمة) كي يجعلوه "أسقفاً" على روما.
صار هذا الرجل أوّل راهب يسوعيّ في التاريخ يدخل الكابيلّا سيستينا ليخرج منها رأساً للكثلكة. لكنّه لم يتّخذ لنفسه اسم مؤسّس الرهبنة اليسوعيّة إغناطيوس دي لويولا، بل ارتأى أن يتسمّى فرنسيس، أو فرانتشيسكو كما يحلو للرومانيّين أن ينادوه، وذلك تيمّناً بالقدّيس فرنسيس الأسّيزيّ، الذي ارتبط اسمه بالفقر والفقراء. والحقّ أنّ هذا الاسم صار البرنامج وصار الحكاية. فقد أعلن فرانتشيسكو أنّ الفقراء والغرباء والمهمّشين، هؤلاء الذين أحبّهم يسوع الجليليّ، والذين تذكّرنا بهم اليوم بالذات (أحد الدينونة) الكنيسة الشرقيّة الأرثوذكسيّة، أعلن أنّهم قضيّته ومحجّته وعشقه ونبراسه. فغادر القصور الفاتيكانيّة المحفورة بإبر التاريخ والجمال، وسكن دارةً متواضعة. ثمّ أعلن أنّ كنيسته وقعت في تجربة تغرّبها عن أحبّة يسوع المستضعفين في الأرض. وأوعز إلى المؤسّسة الطاعنة في القدم أن حان وقت الإصلاح واكتشاف طاقة التغيير الكامنة في إنجيل المصلوب. وحين رأى أسقف مدينة فولوس (اليونان) الأرثوذكسيّ ما كان من أمر أسقف روما الجديد، شهد له وقال لأحد زوّاره: "الناس يبصقون علينا بعدما أبصروا فرنسيس".هل يستطيع رجل واحد أن يغيّر ملايين البشر؟ بالطبع لا، حتّى ولو كان لقبه الحبرَ الرومانيّ، ويتمتّع بصلاحيّات يحسده عليها حكّام الأرض قاطبةً. وهو لا يستطيع ذلك، لا لأنّه فرد فحسب، بل لأنّ الله وحده هو من يغيّر البشر. يضاف إلى ذلك أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة ربطت ثبات بعض هيكليّاتها، التي آن أوان إعادة النظر فيها وإصلاحها، بمبنًى عقائديّ عنيد، حتّى إنّ بعضهم يحسبه عصيّاً على الإصلاح. من هذه الهيكليّات النظرةُ إلى البابا الرومانيّ ذاته. ومنها طبعاً بتوليّة الكهنة الذين يتبعون الطقس اللاتينيّ، وإقصاء النساء عن الكهنوت عبر اللجوء إلى حجج لاهوتيّة رعناء، فضلاً عن ثلّة من المسائل الأخلاقيّة الكأداء. يعرف فرنسيس هذا كلّه. وهو بالتأكيد يخاف على كنيسته المترامية، ولا يريد لها أن تتصدًع وتتفسّخ. لكنّه يدرك أيضاً أنّ المشروع الإصلاحيّ لا بدّ منه. ويدرك ضعفه على الرغم من نصوص المجمع الفاتيكانيّ الأوّل، التي رفعت أسقف روما إلى مصافّ "الحبر الأعظم". وهو يعي، وهذا هو الأهمّ، أنّه، على شاكلة سيّده المصلوب، لم يأتِ ليُخدم، بل ليَخدم، أي إنّه مجرّد أسقف معرّض للتهشّم في أيّ لحظة، وإنّ يديه فارغتان إلّا من شموع يشعلها هنا، وثمّة على رجاء أن يلتقط البشر بعض وميضها، فيتغلّب النور على الظلمة.اليوم، فرانتشيسكو الجميل قابع في المستشفى يصارع المرض. هو يعرف أنّ صراعه الآخر من أجل إصلاح الكنيسة، وهي "في حاجة مستديمة إلى إصلاح"، كما ذهب إليه آباء الحركة البروتستانتيّة، هذا الصراع لم ينتهِ بعد، ولعلّه لن ينتهي. هل بدأ الرجل، وهو على سرير المرض، يستعيد مسيرة الأعوام المنصرمة محاولاً استمداد الخلاصات؟ ماذا يدور في خلده يا ترى؟ لقد حرّك المياه الراكدة، وجعل كثراً منّا يشعرون بأنّ الكنيسة ليست مجرّد مؤسّسة جامدة تعيد إنتاج ذاتها، وإنتاج أخطائها. لكنّ الهيكليّات العنيدة المتلبّسة لبوس العقيدة لم تتهاوَ بعد، وربّما لن يعيش كي يرى سقوطها بأمّ العين. لعلّه سيموت على الرجاء في بركات الدعاء: يدعو المسيح الراعي أن يرأف بالخراف - ألم يقل إنّه وحده قادر على مناداتها بأسمائها؟ ويرجوه أن يرسل من يمدّ في الأرض إنجيل المستضعفين في الأرض. ويصلّي ألّا تكون الغلبة في هذا العالم للعتمة والطاغوت ورأس المال، وأن يأتي قوم يدركون أنّ البشر أثمن من المؤسّسات، وأنّ السبت جُعل للإنسان لا الإنسان للسبت، كما قال النجّار الذي علّقوه على خشبة.يتمتم فرنسيس هذا كلّه، ثمّ يغمض عينيه ويسكت. ذات يوم، ربّما يكون قريباً، سيرتحل، ضاحكاً كعادته، إلى بلاد أخرى غيمها من لازورد وشمسها من زجاج ملوّن.