لماذا غاب الفلسطينيون عن اجتماع عربي في الرياض، قيل إنه يعنى بشكل خاص بمناقشة مستقبل غزة، والتصدي لخطة طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تقضي بترحيل أهل القطاع، الذي يرغب ترامب في تهجير سكانه و"السيطرة"عليه وتحويله الى "ريفييرا" شرق أوسطية؟
كان منطق الأمور يستدعي دعوة أصحاب القضية لطرح تصوراتهم والإنصات الى رؤيتهم، ومناقشة ما لديهم من أفكار، لكن أسباباً تبدو وجيهة، ربما رجحت خيار أن يكون الاجتماع "أخوياً" و"ودياً" لا ينتهي إلى قرارات، ولا يلزم أطرافه بخيارات.
لكن سؤالاً حيوياً نجد حرجاً إن طرحناه، ونستشعر حرجاً أكبر إن تحرينا الدقة في الإجابة عليه!! السؤال هو حول هوية من سيمثل الطرف الفلسطيني في اجتماع الرياض، هل هو حماس التي تخوض مع اسرائيل مفاوضات تبادل الأسرى والجثامين؟ أم أنها السلطة الوطنية الفلسطينية التي طردتها حماس من غزة قبل ثمانية عشر عاماً؟
الإجابة عن سؤال من يمثل الفلسطينيين، قد تكون هي ذاتها الإجابة عن سؤال من هوالطرف الذي سوف يتولى إدارة قطاع غزة، قبل، أثناء وبعد عملية إعادة إعمار القطاع؟ وما هي ضمانات عدم تدمير غزة مجدداً في زمن لاحق تحت أي إدعاء؟! ومن هم الأطراف الذين سيقومون بتمويل عملية إعادة الإعمار؟ وفوق أي خارطة لغزة سوف يجري تعميرها؟!
أسئلة صعبة، وإجابات يكتنفها التعقيد، ربما كانت وراء غياب ممثل فلسطيني عن طاولة الحضور في قمة الرياض التي انعقدت بمشاركة قادة دول مجلس التعاون الخليجي الست، وكلاً من ملك الاأردن والرئيس المصري. وإن كان أهل القمة قد اختاروا وصفها بأنها اجتماع "ودي وأخوي"، ما يعفيهم من إعلان الخروج بقرارات ملزمة، أو تحمل التزامات محددة.
لكن قمة الرياض "الودية" بدت وكأنها ترسم خارطة عمل ملزمة لقمة عربية طارئة تستضيفها القاهرة في 4 آذار/مارس المقبل، سوف تعكف على مناقشة وإقرار خطة العمل المصرية، التي ترد بها القاهرة على خطة ترامب لتهجير أهل غزة، والسيطرة عليها (لاحظوا أن تعبير السيطرة على غزة هو بالضبط ما ورد على لسان الرئيس الأميركي ترامب).
التحرك العربي في قمة الرياض الودية، ربما استبق انعقاد القمة العربية الطارئة في القاهرة، بتوافق عام على الخطة المصرية، التي تترقبها واشنطن بصبر نافد، بعدما تسبب الإعلان عنها كبديل لخطة ترامب، في إحباط مشروع الرئيس الأميركي الذي تراجع على نحو مثير عن خطته معلناً أنها لم تكن خطة ملزمة وإنما مجرد توصية لا تلزم أحداً.
عرب الرياض اطلعوا دون شك على الخطة المصرية، التي لا يمكن أن تتبناها قمة القاهرة بعد أيام قبل الاتفاق على آليات تطبيقها، وأغلب الظن أن فضاء الاتصالات والمشاورات العربية غارق حتى أذنيه في مناقشة خيارات آليات تطبيق الخطة المصرية، وجدولها الزمني، ومصادر تمويلها، والجهات الدولية والعربية الضامنة لها.
حتى لحظة كتابة هذه السطور، فإن المحتوى الكامل للخطة المصرية، لم يُنشر بعد، وإن كان عنوانها العريض هو "تعمير دون تهجير"، وعلى طريقة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في السبق الى الفعل بجدول زمني مباغت أطلق عليه عنوان "مسافة السكة"، فقد دخلت الجرافات المصرية بالفعل الى غزة، تتبعها مساكن الإيواء المؤقت الجاهزة، لتهيئة مناطق إقامة مؤقتة للفلسطينيين، خلال ستة أشهر، ريثما يتم الإنتهاء من عملية إعادة إعمار قطاع غزة خلال فترة يقدر خبراء مصريون أنها تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات.
بروح حكومة سبعة الصبح التي بثها السيسي قبل عشر سنوات، دخلت الجرافات المصرية إلى غزة مستبقة قراراً قد تتبناه قمة القاهرة الطارئة، باعتماد الخطة المصرية، لكن المعضلات الكبرى لن تنتهي بمجرد اعتماد الخطة من قبل القمة العربية المقبلة، إذ سيتعين على أهل القمة إقناع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل بها، كما سيتعين أيضاً على قوى التأثيرالعربية حشد الدعم الدولي للخطة من خلال الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
شخصياً، لا أتوقع طريقاً ممهداً للحلول، بل طريق مفروش بالأشواك، وبالصعاب، سوف يسعى كل طرف فيه لعرقلة خطى الآخر، لكن أخطر ما أخشاه هو أن يفقد العرب البوصلة، أو أن يضيع من أقدامهم الطريق.
إن إطلالة عن بعد على المنطقة العربية، بنظرة طائر، ربما تتيح لنا رؤية أوسع للخارطة، تسمح لنا بالتعرف على الراهن بمحدداته، واستشراف القادم بتوابعه وبمآلاته. فما يجري فوق الخارطة على اتساعها، هو صراع في خضم عملية معمقة لإعادة هيكلة نظام إقليمي شرق أوسطي، تهيمن عليه إسرائيل -حتى اللحظة-، بينما تتراجع حصص كل من ايران، وبعدها تركيا، في قيادة النظام الإقليمي، قيد إعادة الصياغة، أما عرب الإقليم، فإن الإنحسار الايراني والتراجع التركي، من المفترض أن يفسحا مجالاً لشراكة عربية مستحقة في قيادة نظام إقليمي جديد، غير أن مصير تلك الحصة العربية في قيادة النظام الإقليمي الشرق أوسطي، يظل رهناً بقدرة النظام الإقليمي العربي على بناء رافعة عربية تستطيع رفع الكتلة العربية الممتدة ما بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي.
قمة ستة زائد اثنان التي التأمت أمس الجمعة في الرياض، باجتماع "كاجوال"، تطرح صيغة جديدة للعمل العربي المشترك، تقودها دول الخليج الست بالإضافة الى مصر والتردن، وهي صيغة قادرة، بعيداً عن الخطاب الحنجوري، وتبنياً لصيغ عملية لا تقتفي أثر (وحدة ما يغلبها غلاب.. توصلنا من الباب للباب)، على مواجهة التحديات وتلبية الاستحقاقات.
مازلنا نترقب حلولاً لا يمكن إلا أن تكون عربية، لمشكلات لن تكف إسرائيل ولا الولايات المتحدة عن إثارتها بوجهنا. صناديق الحلول أمامنا دون مفاتيح تقريباً، ولا مفر من الاحتيال والابتكار لفتح أعتى المغاليق، ولو بـ"طفاشة".