ربما يعكس انتشار صور ومقاطع فيديو للاجئين ونازحين سوريين يعودون إلى بيوتهم المدمرة، في مواقع التواصل، صورة خادعة قليلاً عن البلاد التي استطاعت إسقاط نظام الأسد بعد حُكم دكتاتوري استمر 54 عاماً، ما أنهى حرباً طويلة الأمد في البلاد إثر ثورة العام 2011 التي رد عليها النظام بسياسة الأرض المحروقة، وهجّر أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم نحو 24 مليون شخص، بين نزوح داخلي ولجوء خارجي.
والمنشورات التي تحتفي بعودة اللاجئين والنازحين إلى بيوتهم رغم الدمار، تظهرهم بصورة الصامدين والمنتصرين، ولا تترك لغة الفرح العامرة، مجالاً للحديث عن الصعوبات التي يعانيها أولئك الأفراد الذين اختاروا العودة إلى أماكن تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، وربما لا تتحدث حتى عن الحياة التي عاشها أولئك الأفراد في مخيمات اللجوء المفتقرة إلى أبسط مقومات الحياة، بحيث يصبح خيار الرجوع إلى المنازل القديمة المتهالكة في قرى وبلدات لا حياة فيها أصلاً، خياراً نابعاً من أن البديل الذي عاش فيه أولئك الأشخاص كان أسوأ بكثير، وبزوال القصف والملاحقات الأمنية وسطوة المخابرات، يصبح بالإمكان الحلم باستعادة شيء من الشعور بالانتماء وبداية حياة مستقرة، بعيداً من النوستالجيا والرغبة في العودة للحياة القديمة فقط، مثلما يتحدث الرومانسيون. وفي الفترة الماضية، انتشرت قصص في مواقع التواصل ووكالات الأنباء الكبرى، عن عودة عائلات إلى بيوتها في ريف دمشق وحمص وحلب وغيرها، لكن الحديث عمّن لا يستطيعون العودة يبقى بعيداً من الأضواء. مثلاً، يعيش أبو عمر (78 عاماً) مع زوجته (68 عاماً)، في بناء قديم متآكل في قرية بلبل الواقعة على الحدود السورية التركية شمال غربي البلاد، بعدما غادرا قريتهما في جبل الزاوية العام 2018، إثر قصف قوات النظام المخلوع للمنطقة بشكل يومي. واضطر الزوجان إثر ذلك إلى الفرار نحو الشمال، هرباً من القصف الجوي والمدفعي المكثف الذي استهدف قرى جبل الزاوية، ما جعل الحياة هناك مستحيلة، فيما تبقى عودتهما إلى بيتهما القديم خياراً مؤجلاً. والمكان الذي يقيم في الزوجان اليوم يكاد لا يصلح للسكن، حيث اضطرا إلى إغلاق النوافذ باستخدام عوازل بلاستيكية لمحاولة الاحتماء من برد الشتاء القارس في المنطقة. وروى أبو عمر في حديثه إلى "المدن": "عندما وصلنا إلى هنا، وجدنا هذا المكان غير مأهول، بلا نوافذ ولا أبواب، لم يكن سوى مخزن مهجور وقمنا ببناء بعض الجدران في الداخل وغرفة للمطبخ". ولم تكن هذه المرة الأولى التي يضطر فيها أبو عمر وعائلته للنزوح، فالعائلة غادرت منزلها في دمشق العام 2012، عندما طوقت قوات النظام الشارع الذي تعيش فيه في ضواحي دمشق بالدبابات والطائرات في حملة عسكرية واسعة، أجبرت السكان على الفرار، وانتقلت العائلة حينها إلى قريتها بينين في جبل الزاوية، لكن مع توسع رقعة الحرب وسيطرة النظام على القرية، ثم تراجعه وقصفها بشكل شبه يومي بعد سيطرة فصائل المعارضة عليها، لم يكن أمامهم سوى النزوح مجدداً إلى الشمال. وقال أبو عمر بأسى: "خسرنا منزلين، وخسرت ابني الذي قنصه النظام في دمشق، وفقدنا كثيراً من أفراد عائلتنا قبل أن نغادر قريتنا، والآن لم يعد لدينا مكان نعود إليه"، مضيفاً: " أنا رجل مسن، ولا أعرف إن كانت هناك جدوى من المطالبة بمنزلنا في دمشق أو في قريتنا، لكن لا مكان للرجوع إليه حتى الآن". وتظهر صور الأقمار الاصطناعية شارع تشرين في دمشق الذي يقطنه أبو عمر، وهو شارع ملاصق لمنطقة القابون في دمشق، والدمار الذي حل به واسع، فلم يتبق سوى أنقاض، باستثناء المنطقة الشرقية القريبة من ثكنة الشرطة العسكرية، التي كانت تسكنها غالبية موالية للنظام. ورغم مرور شهرين على سقوط الأسد، ما زالت عودة اللاجئين والنازحين محدودة، حيث تواجههم تحديات اقتصادية وأمنية تجعل العودة محفوفة بالمخاطر، فالمناطق التي نزحوا منها في الشمال السوري تعاني دماراً شبه كامل، وانعدام الخدمات الأساسية، يدفع الآلاف للبقاء في المخيمات، أو القرى التي لجأوا إليها، رغم الظروف القاسية التي يعيشونها هناك. وبحسب فريق "منسقو استجابة سوريا"، فإن عدد النازحين العائدين إلى مناطقهم الأصلية منذ سقوط النظام لا يتجاوز الـ80 ألفاً، من أصل مليوني نازح، وهو رقم يعكس حجم التردد والمخاوف التي مازالت قائمة. وجلست زوجة أبي عمر إلى جانبه بصمت، وحين سئلت عما إذا كانت ترغب في العودة إلى منزلهما، أجابت بحزن: "دمروا ذكرياتنا في دمشق، ثم دمروا قريتنا. لكني لست حزينة على المنزل، بقدر حزني على أشجار الزيتون واللوز التي زرعتها وسقيتها بيدي. اعتنيت بها 15 عاماً، وحين بدأت تؤتي ثمارها، خسرنا كل شيء". وأضافت بصوت منخفض "لكن الحمد لله، قد يكون وضعنا أفضل ممّن ما زالوا في الخيام". وتشبه حالة عائلة أبي عمر، وضع آلاف العائلات السورية التي اضطرت للنزوح هرباً من الحرب. ورغم ذلك، يحاول البعض العودة إلى قراه المدمرة، حيث يبني بعضهم خياماً بجوار منازلهم في انتظار إعادة الإعمار. الحاجة نوف، مثلاً، عادت إلى بلدة كفرنبودة بريف حماة الشمالي، حيث نصبت خيمتها فوق أنقاض منزلها رغم انعدام مقومات الحياة هناك. صورتها التي انتشرت، وغيرها من الصورة ومقاطع الفيديو التي توثق عودة نازحين إلى قراهم المدمرة وانتشرت على نطاق واسع، أصبحت رمزاً للمأساة التي يواجهها السوريون إثر الدمار الذي حل بمدنهم وقراهم. وبحسب تقرير "منسقو استجابة سوريا"، فإن الأضرار الناجمة عن الحرب طاولت مختلف القطاعات الحيوية، إذ تضررت في المدن الكبرى وحدها 892 مدرسة، و161 منشأة صحية، بالإضافة إلى 4626 كيلومتراً من الطرق العامة، و511 فرناً، و312 دار عبادة. كما تم توثيق تدمير جزئي لـ42844 منزلاً، وتضرر 71328 منزلاً بشكل كبير، فيما بلغ عدد المنازل المدمرة كلياً 64282 منزلاً. وتبقى الأرقام التي توثق الدمار في كامل البلاد أكثر سوداوية. وحذر الفريق من أن الوضع في المخيمات يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، حيث يعيش ملايين النازحين في ظروف غير إنسانية، وسط غياب حلول عملية لإعادتهم إلى ديارهم. كما انتقد التقرير تركيز بعض المنظمات الإنسانية على فعاليات شكلية، بدلاً من تقديم الدعم الأساسي للنازحين، داعياً إلى إعادة توجيه الجهود نحو تحسين ظروفهم المعيشية، وضمان عودتهم التدريجية بكرامة وأمان. وإلى جانب الدمار الهائل، مازالت مخلفات الحرب تشكل تهديداً مستمراً لحياة السوريين، حيث تستمر الألغام في حصد المزيد من الأرواح. فمنذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، تسببت انفجارات الألغام والذخائر العنقودية في أكثر من 108 موقعاً بسوريا بمقتل 109 أشخاص، بينهم 9 أطفال و6 نساء، بالإضافة إلى إصابة 121 آخرين، بينهم 48 طفلاً وامرأة. ورغم كل التحديات التي تواجه النازحين السوريين، سعى بعضهم للعودة إلى مناطقه المنكوبة، محاولين إعادة بناء حياتهم من جديد من خلال إطلاق مشاريع صغيرة تؤمن لهم مصدر دخل بسيط يساعدهم على تأمين احتياجاتهم الأساسية. وهنا، انتشرت صورة مؤثرة لشاب عاد إلى مدينة سراقب المدمرة، حيث افتتح بسطة لبيع الفلافل وسط الأنقاض، في محاولة لإعادة إحياء شوارع المدينة المهجورة، وغيره ممن عادوا لفتح مشاريع بسيطة. آخرون قرروا استثمار ما لديهم من خبرات وإمكانات، فأسس أحدهم مطعماً خاصاً به، بينما يفكر آخرون في نقل مشاريعهم التي بدأوها في أماكن نزوحهم إلى مدنهم الأصلية، رغم المصاعب الأمنية والخدمية التي ما زالت تعيق الاستقرار الكامل. وتواجه الإدارة الجديدة في سوريا تحديات كبرى، تتراوح بين بسط الأمن وإعادة هيكلة الجيش، إلى تأمين الطاقة والمياه، ودفع أجور العاملين. في ظل هذه الظروف، تبقى عودة اللاجئين مرهونة بتوفير الظروف الملائمة للسكن والخدمات الأساسية، وضمان الاستقرار الأمني.
نازحة سورية تتحدث عن سبب عدم عودها لمدينة #حلب عقب سقوط نظام الأسد #فيديو pic.twitter.com/siCa2xs4y5
— الجزيرة سوريا (@AJA_Syria) February 4, 2025
وأعلنت الأمم المتحدة أن أكثر من مليون سوري عادوا إلى ديارهم منذ سقوط الأسد، بينهم 800 ألف نازح و280 ألف لاجئ. وكتب المفوض السامي لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، في منصة "إكس": "منذ سقوط النظام في سوريا، نقدر أن 280 ألف لاجئ سوري وأكثر من 800 ألف نازح عادوا إلى ديارهم. الجهود الأولية لمساعدة سوريا على التعافي يجب أن تكون أكثر جرأة وسرعة، وإلا فإن الناس سيغادرون من جديد. هذا الأمر بات عاجلاً الآن". في المقابل، دعت "المنظمة الدولية للهجرة"، اللاجئين السوريين إلى التريث، محذرةً من أن عودة أعداد كبيرة منهم ستضغط على البلاد، وربما تؤثر في عملية السلام الهشة هناك. وفي إطار الجهود التي تهدف إلى توفير مساكن آمنة للنازحين في الشمال السوري، تم تنفيذ مشاريع سكنية عديدة، أبرزها مدينة الأمل السكنية في بلدة صوران بريف حلب الشمالي، التي افتتحت في كانون الثاني/يناير الماضي. تضم المدينة 1400 شقة سكنية، وتستوعب أكثر من 8800 شخص، مع مرافق خدمية متكاملة تشمل مدارس ومركزاً صحياً ومسجداً، وسوقاً تجارياً، بهدف نقل الأسر من ظروف المخيمات القاسية إلى بيئة مستقرة تحفظ كرامتهم.
بجهود قطرية.. افتتاح مدينة الأمل لإيواء 1400 عائلة نازحة في الشمال السوري#الجزيرة_مباشر | #سوريا pic.twitter.com/OvM5frXzmd
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) February 1, 2025
بالإضافة إلى ذلك، قامت منظمة "قطر الخيرية" بوضع حجر الأساس لمشروع مدينة الكرامة في مدينة الباب بريف حلب الشمالي، والذي يهدف إلى إيواء نحو 8500 نازح سوري، ويشتمل المشروع على وحدات سكنية ومرافق تعليمية وصحية وترفيهية، بهدف توفير حياة كريمة للنازحين. من جهة أخرى، يبرز "فريق ملهم التطوعي" بمبادراته المتميزة، حيث أطلق مشروع "قرية ملهم" لبناء 300 شقة سكنية طابقية، وقد تم الانتهاء من بناء 66 شقة حتى الآن ويهدف المشروع إلى توفير مساكن كريمة للأسر النازحة، مع مرافق خدمية وتعليمية، بما في ذلك مدرسة "غزة - لجيل جديد" للمرحلة الأساسية، التي افتتحت لتوفير بيئة تعليمية آمنة للأطفال. إلى ذلك، تعهدت 20 دولة عربية وغربية خلال مؤتمر باريس في 13 شباط/ فبراير الجاري، بتقديم المساعدة في إعادة بناء سوريا، وحماية المرحلة الانتقالية من التحديات الأمنية والتدخلات الخارجية. وتتفاوت التقديرات حول كلفة إعادة إعمار سوريا بعد أكثر من 14 عاماً من الصراع المدمر. فتقدر كلفة إعادة الإعمار وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، بحوالى 400 مليار دولار، بينما يشير خبراء اقتصاديون إلى أن الكلفة ربما تتراوح بين 200 و300 مليار دولار، في حين يقدر آخرون أن المبلغ المطلوب قد يصل إلى تريليون دولار. هذا التباين في التقديرات يعكس تعقيدات الوضع على الأرض، وحجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية والقطاعات الاقتصادية المختلفة. وتشمل الأرقام تكاليف إعادة بناء المساكن، المرافق العامة، البنية التحتية، بالإضافة إلى إعادة تأهيل القطاعات الحيوية مثل الزراعة، الصناعة، والنفط. يؤكد الخبراء أن عملية إعادة الإعمار ستتطلب جهوداً دولية مكثفة، واستثمارات ضخمة تمتد على مدى سنوات عديدة، لضمان عودة الاستقرار والحياة الطبيعية إلى البلاد. ويتمنى أبو عمر وعائلته العودة إلى منزلهم في القرية في القريب العاجل، لكنهم ينتظرون حلول فصل الربيع، كي يتمكنوا من إعادة بناء ما تهدم من منزلهم، وإعادة زراعة أشجار الزيتون واللوز، وحديقة الأزهار في الشرفة الأمامية لفناء المنزل، والتي لطالما تحدث عنها أم عمر خلال اللقاء بحسرة.
"من إجيت هون فتحت بسطة"مهجر سوري يفتتح مشروعا بسيطا بعد عودته إلى منزله المدمر جزئيا في سهل الغاب بريف #حماة إعداد: خزامى الحموي#تلفزيون_سوريا #نيو_ميديا_سوريا pic.twitter.com/Fa5QdgAqtp
— تلفزيون سوريا (@syr_television) January 22, 2025
استلهم فكرته من حي النسيم بـ #الرياض.. شاب سوري يفتتح مطعمه الخاص في #دمشق بعد عودته لها من #السعودية pic.twitter.com/i6bqEGvhbE
— عبدالمحسن الحربي (@mhsen93) February 2, 2025