يستعد حزب الله ومناصرو أمينه العام الراحل حسن نصر الله، لتشييعه، وخليفته هاشم صفي الدين الذي سيُنقل نعشه إلى قريته الجنوبية: دير قانون النهر. أما الجنازة المخصصة لنصر الله فتسلك طريقها إلى مدينة كميل شمعون الرياضية، وقد أُعدّت لها احتفالية شعبية مهيبة، حشد لها المنظّمون منذ أسابيع إمكانات ضخمة تليق بالمناسبة، وتهدف إلى توجيه رسائل مضمرة أو صريحة إلى الموالين والخصوم، باستمرارية النهج الذي اختطّه الراحل في حياته، وما عزم عليه منفرداً أو بالتكافل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من بناء دور سياسي لشيعة لبنان الذين يكابدون في هذه الأيام الحاسمة وهناً سياسياً وعسكرياً.
اللافت في تحضير المشهدية هذه، مشروعُ بناء مقام يضم ضريح الفقيد. والمقامات في الذهنية الدينية الشيعية، أحد المراكز الأساسية في صناعة الذاكرة، حسب عبارة الباحث التونسي صلاح الدين العامري. واستخدام المولجين بهذا المشروع لكلمة مقام، يفتح القوس على فضاء مقدس، وصورة ممثلنة للبطل أو الولي الديني، كما يراه الخيال الشعبي. إذ بتنا نتلمّس بوادره من خلال الروايات التي تتحدث عن بقاء السيد حياً يُرزق، لم يُخدش جسده بأية جروح أو رضوض، رغم أطنان القنابل التي رمتها الطائرات الإسرائيلية على مخبئه، كما توصيفه بصفات بدأ مريدوه يخلعونها عليه عند ذكر اسمه، مثل قُدّس سره، ورضوان الله عليه، وسواهما من مفردات المعجم الديني الشيعي الذي أغنته الثقافة الخمينية. بيد أنّ المقام المفترض أقرب إلى أن يشكّل نقطة تقاطع بين الديني والدنيوي، حيث شخصية نصر الله تنحو، في نظر من والاه وأيّده من عامة الناس، أو من عارضه، إلى زعيم سياسي كاريزماتي أكثر منه عالِم دين. في حين عومل آية الله محمد حسين فضل الله، أحد مؤسسي الحزب التاريخيين، والذي حظي في حينه بولاء شعبي مماثل، كعالِم دين لا كقائد سياسي. ولعل تحويل ضريح نصرالله إلى مزار، أو مقام ديني يضاهي مقامات الأولياء الشيعة، ناجم عن موته الاستشهادي، على يد العدو الإسرائيلي، وهو الموت الذي يُعلي الناس من درجته.
فالشهيد غدا المصطلح الأكثر رواجاً في نشر الثقافة الإسلامية، حيث تجاوز المصطلح القرآني الموروث، والموقوف على معنى الشاهد الدال على الحق. وتوسّعت حلقاته ليشير إلى المرء الذي يضحي بنفسه في المعركة في سبيل الله إعلاءً لكلمته، وارتباطاً بمفهوم الجهاد، أو الحرب المقدسة. واكتسب أهمية في الثقافة الشيعية، عقب معركة كربلاء التي كرّست استشهاد الإمام الحسين علامة عليه، يستحضرها الشيعي، في الأوقات العصيبة، وفي أزمنة المحن. في حين ينحو الاتجاه السنّي إلى الحديث عن صورة البطل الديني الذي امتصّ سجايا الفروسية وقيمها، بعد أسلمتها، وتحوّلها من قيمة اجتماعية دنيوية، إلى قيمة أخروية مقدسة. بيد أنّ منظمات فلسطينية إسلامية موالية لإيران، ما لبثت أن تواترت في أدبياتها وخطابها السياسي كلمة شهيد، ذات البُعد الديني والإيماني، بدلاً من مصطلح البطل. كما تلاشى مع الوقت لقب فدائي، أي البطل الشجاع المنافح عن القضايا الوطنية، بعدما ذاع على ألسنة الخطباء والكُتّاب، وانتشر على نطاق واسع في الصحف ووسائل الإعلام العالمية مُعَرّباً، ومتزامناً مع بداية عمليات الفصائل الفلسطينية المسلّحة التي قادها زعماء قوميون وعلمانيون من خريجي الجامعات الأميركية والأوروبية والسوفياتية.
وبمقتل السيد نصر الله إبّان الحرب الضروس غير المتكافئة التي خاضها الحزب ضد الإسرائيليين، كان من المتوقع أن يُدفن جثمانه، كما درجت العادة عند معظم رجال الدين الشيعة اللبنانيين الكبار، في وادي السلام في العراق، إلى جوار الإمام علي الذي يُنسب إليه قوله: إنّ الوادي أول مكان عُبد فيه الله. أو في كربلاء، قرب ضريح الإمام الحسين الذي يتمتع بمركزية تجربة الاستشهاد، المتعلّقة بمأساته، ومأساة أهل بيته. وتُعزى إلى تُربة قبره فضائل جمّة، وقوى مباركة وإعجازية. غير أنّ الجهة المنظِّمة لتشييع نصر الله، ارتأت أن يُدفن في حيّز من أرض محاذية لمطار الشهيد رفيق الحريري الدولي، ولا تُعرف بواعث هذا الاختيار وغايته، إنْ كان ثمرة مداولة بين أصحاب الشأن، أو تنفيذاً لوصية المتوفى.
بيد أنّ أهمية ما تمخّض عنه القرار ليس بناء الضريح، ولا أرضه الشاسعة، ولا موقعه الذي أثار اللغط والتساؤل، إنما بيت القصيد هو إنشاء المقام أو المزار بحد ذاته. إذ قلما ألِف أبناء المنطقة وجود مقامات قبل هذا الحين، إلا ما كان معروفاً في قراهم ودساكرهم من صوامع وجوامع قديمة.
وإذا كان شيعة لبنان اعتادوا زيارة مقام الست زينب في ضواحي دمشق، فإنّها كانت في غالبيتها لإيفاء النذور. لكنّ الرياح الإيرانية التي هبّت على بلاد الشام ولبنان والعراق، منذ الثمانينات، لقّحت الثقافة العربية الشيعية بلقاح الثورة الخمينية، قبل أن تستثمرها في السياسة والحروب، حيث غدت مقابر الشهداء مع التطور الميداني والعسكري شاهدة على هوية المجتمع، ومكوّناً من مكونات المنطقة، ومصدراً للتاريخ الإجتماعي والسياسي. وبوحي هذا التصوّر، تعلقت ذاكرة حزب الله بهذا المثال الإيراني، واحتلت الشهادة مكانة بارزة في اللغة السياسية للشيعة. فأُعيد تخطيط قبور شهدائها وتنظيمها، وفق الدينامية الحزبية التي تقوم على فكرة الاستشهاد.
وبات للمقامات بقبابها الطويلة، وأعمدتها الضخمة، وجدرانها ذات المرايا التي تعكس لمعانَها الثرياتُ الكريستالية الفخمة، وأرضيتها الرخامية المفروشة بالسجاد، دورٌ في استنهاض الهمم والحميّة الشيعية، وتفعيلها كجزء من استراتيجية ذات أبعاد إيديولوجية، تغطي التاريخ والحاضر. وتتمتّع المقامات المنتشرة في القرى الشيعية بحاضنة إيرانية، تحثّ الموالين لها على تنظيمها، وعلى زيارتها الدورية في الأعياد والمناسبات الدينية.
ولعل اختيار ضريح السيد نصر الله، جاء احتذاء بضريح الإمام الخميني ونهجه الذي بجّل ثقافة الاستشهاد، وفق أهداف اختطها للجمهورية الإسلامية منذ قيامها، لتثبيت عقيدتها ودورها الإقليمي والدولي. ورأى الى الأضرحة، أحد الأمكنة التي تكرّس حق الجماعة واستدامتها، وحسِب زيارة المقابر ذات فائدة أخلاقية، وعلامة على الفضيلة الدينية. لذا دشّن الخميني عودته المظفّرة إلى طهران بزيارة المقبرة الكبرى بهشت الزهراء. وعليه، يبدو أحياناً أنّ الممارسات الجنائزية أماكن لهوية مقاوِمة، أو مثبّتة لها، لا سيما في ظل أنماط من السيطرة السياسية القامعة او المتسامحة، أو في ظل صراعات بين المذاهب والطوائف في البلد الواحد، كما هو حالنا في لبنان.