جمع اليسار إشارة إلى معنى، وجوده العام، ما هو مؤطّر من هذا الوجود، وما هو خارج الأطر المعروفة. والجمع هو إشارة أيضاً إلى معنى تجميع هذا اليسار واجتماعه، ليعود فيكون "طائفة" الذين لا طائفة لهم، والطائفة التي تعيد استرداد أصل المواضيع الوطنية، لنقاشها نقاشاً تاريخياً غير مبتور من جذوره، ونقاشاً سجاليّاً مع السائد من استنسابية الطوائف، ومن شروح النظام السياسي.
تلحّ مهمة استحضار مسائل واقع ما كان يساراً حيويّاً، فصار يساراً خاملاً، في مواجهة ما كان يميناً لبنانياً "منضبطاً"، فأفلت من عقال انضباطه، بعد أن تكفّلت كاسحة التدخل الخارجي بإزالة الكوابح الشعبية، المتعدّدة المشارب، وبعد أن انفتح قمقم التشكيلة اللبنانية، فأفلت منه ماردُ شطحاتها السياسية والإيديولوجية، مع ما حملته تلك الشطحات من توظيف للعصبيات الطائفية، حيث كان الوضع يدعو إلى العصبية، وما حملته من استعانة بغيبيات النصّ وغيبيّات "التأويل"، حيث كانت الحاجة تدعو إلى استدعاء السماء.
استعادة المواضيع، من خارج مداولات النظام مع ذاته، هدفها الوضوح أولاً، وهدفها الاستطرادي استقامة القراءة، هذا لتكون الدعوة إلى قلب صفحة الماضي يسيرة، ولتكون الدعوة إلى فتح صفحة اجتماعية جديدة، دعوة مفهومة ومعللة، ببيان شامل يقرأ الظرف الراهن وامتداداته، ويقرأ الأهداف وممكناتها، ويقرأ وسائل العمل وملاءمتها، ويعيّن بعد ذلك كله، نقطة البدء السجالية أي نقطة الافتتاح، التي لا تستغرق في التاريخ طويلاً، بل تنطلق منه، لتعمل أفكار تشريحها في السائد السياسي الذي تتصدره مطالعات الطائفيات، المسكونة بهواجس الاختلاف، الذي يلامس حدود طلب الافتراق، والمدفوعة برغبة إحياء غلبة سياسية داخلية آفلة، اختلّ ميزان ثباتها، وتخلخلت الأسس التي أمّنت لها، ذات يوم، عناصر الثبات.
في سياق الدعوة إلى الجمع، وفي ضرورة توجيه العناية إلى اليوم السياسي اللبناني الصعب، يدور سجال ساخن حول مسألتين وطنيتين عامتين، هما: مسألة المقاومة، ومسألة السيادة. المسألتان متصلتان ومتداخلتان، فماذا عن هذه المسألة وتلك، من الموقع الشعبي العام، الذي يخاطب جملة المصالح الموضوعية لكل اللبنانيين، بعيداً من زوايا نظريات الطائفيات التي لا يخفي خصوصيتها، الجهد المبذول في سبيل إلباسها لبوس العمومية الوطنية.مسألة السيادة:إذا كانت السيادة تعادل تطابق نصوص الدولة مع القدرة على تنفيذها، وإذا كان التنفيذ يعادل سلاسة تحويله إلى واقع، من دون مداخلات ولا اشتراطات، إذا كان الأمر كذلك، فإن اللبنانيين لم يعرفوا في تاريخهم سيادة ناجزة، ولا هم انصاعوا طوعاً لقرار سيادي من دون شروط.
يكاد القول يطابق الفعل لدى نفي المعادلة السيادية في كيان لم يعرف اندماجاً، ولم يعرف توافقاً على تعريف، ولم يتفق حول تاريخ واحد، ولم يسلّم بانتمائه إلى "عرق" بيولوجي واحد، أو بانتمائه إلى ثقافة واحدة، وإلى حضارة واحدة.
مقاربة السيادة من هذه الزاوية يقتضيها الوضوح اللازم لمقاربة البنية، وتقتضيها الصراحة اللازمة للقول، إن السيادة في لبنان وجهة نظر، وهي راية ترفعها هذه الطائفة أو تلك، بما يتناسب واللحظة السياسية المعيّنة، وبما يتوافق وموقع هذه الجماعة أو تلك، في ذات اللحظة المعيّنة.
الخلاصة من التعرض للأساس السيادي، فهماً وممارسة لدى اللبنانيين، هي عدم استنكار التجاوز السيادي التي تتبادل ممارسته الطوائف وأحزابها، وفي مواكبة عدم الاستنكار، يسقط احتكار الشعار السيادي الذي تدّعيه طائفة ما لذاتها.
ما ترجمة الأمر أعلاه في الواقع السياسي الحالي الصعب؟
الترجمة النظرية ملخصها، أن لا أحد يستطيع التنظير سياديّاً، عندما يبني نظريته على أساس طائفي، والترجمة العملية ملخصها رفض الدعوى إلى اللاسيادية بدعوة أن السيادة لم تكن يوماً أمراً متّفقاً عليه بين اللبنانيين. على ذلك يصير السؤال: على أية سيادة يتحدث "القوم"؟ هل هي سيادة التغلّب من قبل جماعة لاحظت أن ريح الظرف السياسي قد هبّت لمواكبة أشرعتها؟ أم هي سيادة الإنكار، والتمسك باستئثار خرج قطاره عن جادة سيره، فتمسك بوهم الوصول إلى محطته الأخيرة، وقد آل مسار قطاره إلى فناء الحقول؟ للحالتين السياديتين إسمان الآن، الاسم الأول هو "للمعارضة" التي رفعت عنوان اللبنانية السيادية، والاسم الثاني هو "للمقاومة" التي تلحّ اليوم على اللبنانية المقاومة السيادية. بين هذه وتلك خطوط انفصال، حتى تاريخه، وعملية مدّ خطوط اتصال عملية معقّدة وشائكة، في غياب "مفاعل" اجتماعي وسيط، يخرج السيادتين من قراءة الضدية إلى قراءة الندّية، ويسلط على المقاربتين السياديتين ضوء الفهم أولاً لتفكيك كل منهما في عملية نقدية واقعية، تؤسس على الملموس، لتكون قادرة على استيعابه ومن ثم تجاوزه.مسألة المقاومة:لم يتفق اللبنانيون على تحديد العدو، لذلك لم يكن ممكناً الاتفاق حول تعريف المقاومة ذاتها، وعلى تعريف المقاومين الموزعين على أكثر من مقاومة.
لن يتفق المقاومون الذين كان موضوع مقاومتهم الصراع ضد العدو الإسرائيلي، مع المقاومين الذين لا يزال موضوع مقاومتهم السوري والفلسطيني واللبناني المشكوك في جيناته اللبنانية. القول العاري هو الممر الوحيد إلى إعادة خياطة ثوب المقاومة، من نسيج تحديد جديد، واضح ومحدد للموضوع الذي أدار ويدير اللبنانيون صراعهم ضده.
مخاصمة حزب الله، الذي آلت إليه المقاومة، تظلّ مفهومة عندما تدلي المعارضة بأسبابها اللبنانية، وعندما تُعَدِّد المخاطر الناجمة عن تفرّد حزب الله بقرار السلم والحرب، وعن الأعطاب البنيوية التي تصيب العيش اللبناني بسبب من هذا التفرد... لكن الخصومة تصير استرجاعية، عندما تستعيد المعارضة مقاومتها في الحرب الأهلية، فتكرر ذات الدوافع، وذات البيان التعليلي، وذات الصوت التحريضي... مما لا تستدعيه اللحظة الحالية. لماذا؟ لأن قوى الحرب الأهلية لم يكن حزب الله الحالي موجوداً ليكون واحداً من أطرافها، فيكون مقصوداً بالنقد والخصومة.
التمسك بالرواية "المقاومة"، من جانب المعارضة الحالية، يدفع أبناء الضفة الثانية المقاومة، إلى استعادة زخم الخطاب الذي كان، بأسبابه وبمفرداته وبشرحه الطويل... عندها وبسبب من التداخل الذي جرت الإشارة إليه، ماذا يفعل أبناء السيادة بالسيادة؟ أليس في الأمر الخطابي الاسترجاعي تشطير جديد لموضوع السيادة؟
ننتقل إلى مسألة انتصار المقاومة أو هزيمتها، لا فرق، لنسأل: من هزم مقاومة ما بعد الحرب الأهلية؟ كان الأمر مطلوباً في البداية من القوات السورية التي تدخلت سنة 1976، بطلب من أبناء السيادة المعارضين الحاليين. ثم كان الأمر مطلوباً من العدو الإسرائيلي الذي اجتاح بيروت سنة 1982، بعدم اعتراض من قبل السياديين الحاليين، هذا حتى لا ننكأ الجراح فنقول بموافقة منهم. حصيلة التدخل السوري والغزو الإسرائيلي، أسقطها المقاومون الوطنيون الذين صمدوا وأعادوا انتظامهم بعد 1976، والذين قاتلوا العدو حتى الشريط المحتل سنة 1985، وآل أمر تحرير الشريط إلى المقاومة الإسلامية، أي الجناح العسكري لحزب الله، وقد كان للبنانيين الفوز بالتحرير الكامل سنة 2000 بعد سنوات الاحتلال الثقيلة.
تكراراً وبسبب من التداخل بين السيادة والمقاومة، من كان سياديّاً عند التصدي للتدخل الخارجي، ومن كان غير سيادي فانكفأ عن مواجهة هذا التدخل؟
يؤسّس الفرز الوارد أعلاه لتعريف العدو الأساسي الذي نهضت إلى مواجهته فئات من اللبنانيين، نعني به العدو الإسرائيلي، ونؤسس للقول بناء على هذا التعريف، وبناء على العرض، أن التخلي عن السيادة جاء من قبل الذين كانوا سياديين عمليّاً، أي المقاومة في نسختها الأخيرة، عندما انقادت النسخة تلك إلى الانخراط في "إمرة" محور إقليمي له أهدافه وحساباته اللبنانية وغير اللبنانية.
في نقطة التدخل هذه، بين الوطني والإقليمي، يقع حقل الجهد المطلوب لإعادة الاعتبار إلى السياق اللبناني الداخلي الذي يجب تغليبه على كل الحسابات الخارجية.
اليوم، وبعد انقشاع غبار الحرب عن هول الكارثة التي نزلت بلبنان، خصوصاً في جنوبه، وفي بقاعه، يجب القول الواضح بأن مسألة الصراع ضد العدو الإسرائيلي لا يمكن استمرارها وفق النسخة العسكرية التي جرى اعتمادها منذ ستينات القرن الماضي وحتى تاريخه. بكلامٍ آخر، هذه هي الحرب اللبنانية الإسرائيلية الأخيرة، التي تستوجب الدراسة، وتستوجب حسن استخلاص النتائج، وتعتني بالعنوان الوحيد الجدير برفعه: عنوان سلامة لبنان واستقراره وازدهاره، في جمهورية سيدة مستقلة منيعة وحصينة، يتوافق على صناعة عناصر استقامتها كل أبنائها.
ما الذي يُلحّ الآن، في سياق استعادة استقامة الجمهورية؟ البند الأول، هو تثبيت الدولة كمرجعية جامعة مانعة. البند الثاني، هو استيعاب سلاح حزب الله، ومساعدته على التدرج الانتقالي من حالة العسكرة إلى حالة السياسة. البند الثالث، النقاش في السياسات والسبل الأجدى، والتحالفات الأهم والأنسب، لتوفير شبكة أمان للبنية اللبنانية. البند الرابع، النهوض بالوطن الجريح من أبواب كل الأصعدة التي تجعل من الوطن وطناً، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والدفاع... أما البند الدائم، الذي يخترق كل البنود، فهو بند صياغة عقد اجتماعي جديد، له نصّ جامع واحد، ولكل مسألة فيه تعريف شامل واحد، هكذا يعاد تثبيت الهوية، وتثبيت التاريخ، وتعيين العدو الذي يجمع على إدارة الصراع ضده كل اللبنانيين. ولأن الحديث حديث مقاومة، سيظل الخطر الإسرائيلي عامل تهديد للبنان، في الأمن وفي الاقتصاد وفي السياسة وفي الموارد... لذلك، سيكون صدّ كل مخططاته بنداً دائماً على مفكرة السياسة اللبنانية.
ما سبق ذكره، وما يعادله من مسائل يستمدّ مصداقيته الأساسية من اسم الطائفة الناطقة به، أي الجزء من الذي كان ذات يوم يحمل اسم اليسار بمختلف أطرافه، فهل يعود ذلك الجزء، فيتجدد، فيخاطبُ المجتمع اللبناني من خارج ألاعيب الطائفيات السياسية؟