في حفلتها في لندن، قبل قرابة أسبوع، وضعت سارية السواس علم البلاد الجديد على كتفيها، العلم المعروف بـ"علم الثورة" قبل سقوط بشار، وغنّت: "ارفع راسك فوق إنت سوري حر". نشرت السيدة سارية المقطع المذكور على حسابها في فيسبوك، حيث لديها 3.7 مليون متابع، وكانت قبلها بيومين قد نشرت أيضاً مقطعاً وهي جالسة في مطعم رفقة أصحابها، تشاركهم فيه أداء الأغنية نفسها في جو من الضحك والابتهاج والعفوية.سارية السواس بمثابة ظاهرة نالت اهتماماً واسعاً بين السوريين قبل الثورة، ومن أغانيها الشهيرة آنذاك أغنية يقول مطلعها: وين البارح سهرانة يا بنت الكلب.. بشارع مساكن برزة ولا بالتل؟ نامت عليك الحيطة.. شلون تنامين؟!..إلخ. نجومية السواس أتت من خارج الأقنية الرسمية، الإذاعية والتلفزيونية، فهي مغنّية الملاهي والمرابع الليلية التي يقصدها طالبو الترفيه، والذين يسعى معظمهم إلى سماع ما يحفّزهم على الرقص، أو الدبكة، أكثر من أي شيء آخر. أي أنها ليست مغنية سلطة ولا معارضة، بل هي خارج الانقسام الذي أحدثته الثورة.
صنعت السواس نجوميةً تجاوزت أصداؤها روّاد تلك الملاهي، وإن بدا غريباً خارجها ذلك المزيج من الأورغ والطبل والمغنّية الجريئة اجتماعياً. بالنسبة للمثقفين السوريين، يمكن الجزم بأن للسواس سمعة رديئة لديهم، فهي خارج الترسيمة الثقافية الفنية التي يحترمونها؛ هي بالأحرى رمز الابتذال الذي يأنفون منه، أو الذي يُفترض بهم إظهار تعاليهم عليه.في استمرار لذلك التعالي، أظهر مثقفون استياءهم من وضعها العلم على كتفيها، وغنائها "ارفع راسك فوق"، فالسواس بحسب المستائين ابتذلت العلم والأغنية بإنزالهما إلى مستواها. وعلى صفحتها يحضر متدينون أكثر صراحة من أقرانهم المثقفين، إذ يتهمها أكثر من تعليق لهؤلاء بأنها "نجّست" العلَم "الطاهر"، إلى جوار تعليقات تفوقها بذاءة وتعريضاً بالسواس، بينما تحضر تعليقات تشجّعها بمرح واستخفاف ليس إلا.ريم السواس مغنّية أخرى من العالم نفسه، لا تقل شهرة عن سارية، وهي صاحبة أغنية "أكبر غلطة بحياتي عَلّيت واحد واطي"، ظهرت مؤخراً بأدائها أغنية "أبو عمشة القيادة"، وهذه الأغنية انتشرت بسرعة شديدة بين عموم السوريين، ومنها: أبو عمشة القيادة.. تلبق له السيادة.. هذا اللي حرر بلاده.. بالضربة القاضية. أبو عمشة هو قائد فصيل العمشات المنسوب إليه، وعُيِّن مؤخراً قائداً للفرقة 25 في الجيش. أيضاً، نبّه ظهور ريم السواس بأغنية "أبو عمشة القيادة" أولئك المستائين إلى أن الأمر تجاوز الحد، فالأغنية التي اشتُهرت بين الجد والهزل تجاوزت الأوساط المعنية بها، وأصبحت تُغنّى في المرابع الليلية، وعلى نحو يخرج بها كلياً عن الأصل والسياق.
كنا قبل ذلك قد شهدنا تسجيلات من مطاعم دمشق، يرقص فيها شباب وشابات على أنغام "أبو عمشة القيادة"، أو "ارفع راسك فوق"، أو "مندوسهم مندوسهم.. بيت الأسد مندوسهم"، لا فرق. وهؤلاء المحسوبون على ثورة الأمس يشبهون ريم وسارية وصحبهن، من حيث الشكل ومن حيث الأداء. وقسم كبير منهم ساهم في ترسيخ هذه الرمزيات الاحتفالية التي تبدأ بالتقاط صورة مع السيف الدمشقي في ساحة الأمويين، ثم التقاط بعض الصور في مقهى معروف، وصولاً إلى مطاعم باب شرقي وباب توما، والعلَم يحضر في جميع المحطات السالفة الذكر.وإذا كان حضور العلم مفهوماً في لحظات التحرير الأولى، فالكثافة التي بقي يظهر بها خلال شهرين لاحقين مثيرة للانتباه حقاً. لكن الإفراط في إبرازه صار سمة على نحو خاص في الاستعراضات التي تُقام في دمشق، ويتكرر فيها حضور فرقة العراضة الشعبية الدمشقية، ليُستحضر التراث أيضاً لإضفاء مزيد من الزخرفة والبهرجة عليها.
في المحصلة صار يمكن الحديث عن "كيتش التحرير"، وكيتش هي كلمة ألمانية يصعب ترجمتها بكلمة واحدة، فهي خلال حوالى قرنين من شيوعها اكتسبت دلالات عديدة، منها إعادة إنتاج فنون وأفكار جيدة على نحو سطحي مبتذل، ومنها ترويج الابتذال بحيث يصبح سمة غالبة تطغى عمداً على ما هو أصيل ومتفرّد. والكيتش هو مساحة سرعان ما تستقطب زبائن يرون فيه فرصة سانحة للاستثمار المعنوي أو المادي، فجزء من الاستعراضات التي أشرنا إليها هي على سبيل الترويج لأصحابها، ولأغراض معنوية أو سلطوية متعددة، إلا أنها أيضاً فرصة سانحة للاستثمار التجاري، وكثافة تواجد الأعلام في دمشق تشير إلى دخول التجار على خط الاستفادة من هذا الموجة.ذلك لا يعني أن تجار دمشق (على نحو خاص) يركبون الموجة، فهم يفعلون ذلك بحكم وجودهم في العاصمة التي استقطبت فجأة نوعين من الوافدين؛ السلطة الوافدة من إدلب، بصرف النظر عن المناطق التي ينحدر منها أهل السلطة الجديدة، وإلى جوارها السوريون الآتون من مختلف دول الشتات ليحتفلوا بالنصر، وربما ليستكشف البعض منهم آفاق البقاء، أو آفاق الانخراط ضمن السلطة الجديدة. خلطة الوافدين هذه هي المعنية أولاً وأخيراً بكيتش التحرير كما رأيناه، ووسائل التواصل صارت بمثابة مجال حيوي لترويجه أو تسويقه.
وإذا كان الكيتش في العديد من الحالات موازياً شعبوياً لثقافة رسمية متعالية، ففي الحالة السورية الراهنة (والمفصلية) لا توجد منابر إعلامية تقليدية؛ التلفزيون الحكومي متوقف عن العمل والبث منذ إسقاط الأسد، والصحف الموروثة من زمن الأخير لا دور لها حالياً يُذكر. أما الإعلاميون المعتمدون من قبل العهد الجديد فهم موجودون على منصات السوشيال ميديا، ولم يأتوا أصلاً من الإعلام التقليدي.واحد من هؤلاء ظهر مع رجال الأمن وهم يلقون القبض على مشارك في مجزرة التضامن الرهيبة، وكان الإعلامي يحمل عظمة قيل أنها من رفات قتلى المجزرة، بحيث صار ظهوره مسلّحاً بالمسدس يهون أمام ذلك المشهد. إعلامي آخر نشر على حسابه خبراً يتعلق بالقبض في اللاذقية على أحد سجّاني فرع فلسطين، الخبر الذي يتضمن ما يزيد عن 50 كلمة خلا تماماً من علامات الترقيم، فلا يعرف القارئ هل المقبوض عليه أم الفرع المذكور هو المعني بوصف "سيء السيط والسمعة" الذي ورد في النص. نعم، هكذا كتبها "السيط" ويقصد الصيت، والخطأ بحرفين يجعل احتمال وروده سهواً غير مرجَّح.
أما النموذج الأقسى على الابتذال فقدّمه صانع محتوى هو شيف مطبخ شهير، وكان قد دعا إلى وليمة، لمن يرغب، لمناسبة التحرير، في الجامع الأموي. بسبب تدافع المساكين الجوعى من أجل الوصول إلى الوليمة لقيت ثلاث نساء حتفهن، ولم تُعرف أية معلومات عن الجهة التي رخّصت لإقامة الوليمة في الجامع الذي له قيمة معنوية كبرى، وتم تناقل وعد رسمي بالتحقيق في الحادثة، وهو ما لم تظهر أية نتائج تشير إليه لاحقاً.ولم يعد مستغرباً أن يستفيد الموالون الجدد من كيتش العهد البائد، فعاودت الظهور سريعاً مفرداتُ الولاء السابقة، وإن بدأ استخدامها بين الجد والهزل، وظاهرياً على سبيل النكاية بموالي الأسد رغم عدم وجود كتلة منهم بارزة وناطقة على قدر استخدام تعبير الفلول. هكذا عادت إلى التداول مفردات تقديس أو عبادة الفرد، ويُسجّل للعهد الجديد ملاحقته المظاهر التجارية في أسواق دمشق، حيث مُنعت الأعلام التي تحمل صورة الرئيس الجديد، أو تلك التي تحمل صورته وعبارة "منحبك في الله" التي تذكّر بصور المخلوع وعليها كلمة "منحبك" التي اشتُق منها لفظ المنحبكجية. لكن العهد الجديد يحتاج حزماً أشدّ إذا قرر النأي عن هذه الظواهر المبتذلة في العالم الافتراضي، ومنها شيوع استخدام توليفات من تسجيلات وصور السيد الشرع مع أغنية لكاظم الساهر تمتدح الدلع!لقد وصل الأمر سريعاً بصفحات لموالين جدد إلى تسخيف أغنية راجت بعد إسقاط الأسد، هي أغنية "بالحب بدنا نعمّرها"، فراحوا يستخدمونها كـ"تريند" ساخر مرافق لما صار يُسمّى "تصرفات فردية" وينطوي على عمليات تنكيل أو انتقام ضد متَّهَمين من العهد البائد. الأسوأ أن هذا الابتذال لقي ويلقى تشجيعاً، أو صمتاً بمثابة التشجيع، بذريعة حاجة الناس إلى الاحتفال على سجيتهم، وبذريعة أن أولئك الإعلاميين لم تتِح لهم الظروف تعليماً أفضل، وبذريعة الديموقراطية حيث صارت تعني ادعاء المساواة بين الآراء بصرف النظر عن قيمتها المعرفية أو الأخلاقية. بل صارت القيمة في موقع الذمّ والاتهام بوصفها من علامات الثقافة والنخبوية، الثقافة التي يأبى التشبّه بها الشعبويون ودعاة الرداءة والاجتزاء والانتقائية، وما يلتحق بهم من أنصار.
من المستغرب، وسط هذه الأجواء، أن يُنظر باستياء إلى السيدة سارية السواس، أو إلى السيدة ريم السواس، على خلفية غنائهما الأغنيتين اللتين أشرنا إليهما، وأن يأتي الاستياء كأنّما من خلال النظر إليهما كنموذجين عن الابتذال، فقط لأنهما أصلاً في موقع ضعيف اجتماعياً ودينياً وثقافياً. ما فعلته الفنانتان لا يتعدى، في أسوأ الأحوال، الاستثمار في الابتذال الدارج، من دون أن يكون لهما السبق في اجتراحه، وإذا كان هناك ما يدعو إلى الخجل فالمساءلة يجب أن تذهب إلى موضعها الصحيح، رغم أن هذه المطالبة يُستبعد تحققها بسبب مجافاتها آلية الابتذال ذاتها.