عندما نتحدث عن الغياب، أيًّا كان هذا الغياب ومتى وكيف ولماذا، نستذكر في حنايا الكلام بعضًا من تركة أو شيئًا من أثر أو طيفًا من حضور، ولكن عندما نتحدث عن ثائر أممي وقائد تاريخي؛ مثل السيد حسن نصر الله فإن الشخص يفرض نفسه في الحضور، محطةً قد لا يستوعبها الحدث نفسه، وقد لا تتّسع له مقالات إخبارية وتحليلات سياسية أو وقفات وجدانية.
هذا الرجل الذي استراح شهيدًا على مذبح الوطن بأطنان قنابل أمريكية ألقتها طائرات أمريكية بطيّار إسرائيلي، شغل العالم على مدى اثنتين وثلاثين عامًا بعد انتخابه أمينًا عامًا لحزب الله والمقاومة في لبنان، وسيبقى يشغله على مدى عقود قادمة استلهامًا من الأكاديمية التي أسّسها في علوم السياسة والحرب واستراتيجيات المواجهة، كما في فن قيادة القلوب والعقول.
حان أوان الوداع للرجل الذي رسم توقيعه على صفحات ميثاق الوطن منذ الطائف حتى اليوم، وحفر اسمه في كل معادلات المواجهة في الداخل والخارج حتى أصبحت المقاومة في لبنان رقمًا صعبًا بحضورها على طاولات السياسة المحلية والإقليمية والدولية، وفرضت وجودها محورًا لمداولات صنّاع القرار في العواصم الكبرى وفي الأروقة العالمية والغرف السرّية والعلنية.
والأهم من كل ذلك؛ أنه القائد الذي كتب التاريخ أنه هزم “إسرائيل” بعد عقود من الخيبات العربية واختباءات الأنظمة التي تئنَ اليوم تحت وطأة الرعب من مجرد التفوّه بحرف الرفض خوفًا من غضب الإمبراطور الترامبي الكوني، وهم يشهدون على آخر فصول قتل الشعب الفلسطيني، يدق آخر الأسافين في نعش القضية الفلسطينية.
إنه الوداع الذي تتحضر جماهير المقاومة لنسج لحظاته الأخيرة في “مدينة كميل شمعون الرياضية”؛ في مشهد يستعيد صورة الحشود في وداع الزعيم جمال عبدالناصر والامام الخميني وقاسم سليماني، فيما هو ورفيق دربه وخليفته في الأمانة العامة الشهيد السيد هاشم صفي الدين يتحضّر ليكون عروجه “إلى اللقاء مع الشهادة..
إلى اللقاء مع الأحبّة”، هكذا قال وكأنه كان يعلم بأن معركة الأيام الـ 66 لن تنتهي إلا ببذل نفسه شهيدًا ساميًا على “طريق القدس” معانقًا في حرب إسناد “طوفان الأقصى” وفلسطين، وهي القِبلة التي نظم بوصلة حياته من أجلها، فقضى فداءً لها من دون خوف؛ وأبى إلا أن يتوّج أحرف اسمه في محفل قوافل الشهداء.
لعلّ تاريخية الحدث، في تشييع الشهيدين السيدين نصر الله وصفي الدين، لا تتّصل فقط بأهمية الرجلين كونهما قائدين لمحور المقاومة الذي أرّق “إسرائيل” وأمريكا والمحور الغربي – العربي، ولا في كيفية استشهادهما مع مجموعة كبيرة من قادة حزب الله في أكثر الحروب الوحشية التي شنّها العدو الصهيوني ضد لبنان عمومًا وبيئة المقاومة ومناطقها خصوصًا، بل تتّصل أيضًا باستحقاق ذي تزامن ثنائي، ففيما يترقّب العالم حجم الحشود التي ستتقاطر من لبنان وخارجه للمشاركة في التشييع ومستوى هذه المشاركة وتمثيلها الشعبي والسياسي والدبلوماسي؛ على الرغم من الطقس الجليدي القارس، ينهمك أبناء الجنوب لتأسيس موطئ وجودهم في قراهم المهدّمة كليًا وجزئيًا على الحدود مع فلسطين المحتلة، وهم الذين انتظروا بفارغ الصبر موعد العودة ليعاودوا زرع ذواتهم في أرضهم حتى لو كانت مجرد أطلال.. وبذلك تنشلع قلوبهم وتنقسم أرواحهم بين ضفتين، ضفة وداع القائد وضفة التمترس لحراسة حدود الوطن.
لن يكون التشييع في تداعياته الشعبية والسياسية والاجتماعية مجرد حدث محلّي سيمرّ بانتظار اليوم التالي، فقد ترك السيّد نهجًا يمشي خلفه مئات الآلاف من اللبنانيين من الذين يؤمنون بمشروع المقاومة خيارًا للاستقلال والسيادة. كما يحضر اليوم، في وجدان الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، خلال تنفيذ مراحل عملية تبادل الأسرى مع سلطات الاحتلال، وهم أرادوا بذلك أن يبعثوا برسالة إلى كل من يعنيه الأمر تؤكد ديمومة الاتصال بين فلسطين ولبنان في حبل سرّة المقاومة، كما أرادوها عربون تقدير وعرفانًا بالجميل لقائد ضحّى بنفسه مع آلاف من الشهداء والجرحى وعشرات القادة الكبار وفاءً للقضية الفلسطينية التي لم يهتز موقعها على رأس القضايا الاستراتيجية والمصيرية التي تؤمن بها المقاومة في لبنان.
وعليه؛ إن حدث التشييع لن يكون نقطة ختام لمسيرة انتهت فصولها، بل سيكون محطة فاصلة تطوي ما سبقها من صفحات نارية مشتعلة ومؤلمة، وينتقل حزب الله بعدها إلى صفحات طور آخر من العمل المقاوم في مختلف مستوياته السياسية والعسكرية والاجتماعية بما تقتضيه المصلحة الوطنية، وفي مقدمّتها تحصين المجتمع وضمان إعادة إعمار ما هدمّه العدوان وعودة أبناء الجنوب إلى قراهم ومنازلهم. هذا إضافة إلى استئناف الأنشطة السياسية الداخلية عشية استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية، وعلى بعد عام ونيّف من الانتخابات النيابية، والتي من المرجّح أن تفرز شكلًا جديدًا للصيغة اللبنانية.
كل ما سبق يعدّ تحدّيًا مفصليًا لحزب الله؛ خصوصًا أنه سيواجه حربًا كونية جديدة. ولكنها هذه المرة تستهدف وجوده واستمراريته بصفته حركة فاعلة ضمن محور المقاومة المعادي للمحور الغربي – الإسرائيلي، وترمي إلى إزالته كونه عقبة تقف أمام المدّ الترامبي المسوّق للمشروع الابراهيمي الذي سيلغي كل الكيانات لمصلحة تثبيت السيطرة الأمريكية – الإسرائيلية في المنطقة. وفي هذا الإطار يؤكد قادة حزب الله أنه على الرغم من الضغوطات الهائلة التي تمارس ضد الحزب، في هذه المرحلة، والتعامل معه على أنه جهة منكسرة ومهزومة، وخصوصًا بعد استشهاد السيد نصر الله، فإن الحزب قد أعدّ العدّة لكل القضايا الداهمة في الداخل والخارج، ولن يتخلى عن كينونته عنصرًا أساسيًا في المعادلات المحلية والإقليمية والدولية، وسيبقى السيد الشهيد ونهجه حاضرًا في كل ذلك.
The post في وداع السيد نصر الله.. القائد والثائر الأممي باقٍ في الشهادة حاضرا ومستقبلا!.. وسام مصطفى appeared first on .