على الرغم من التفاؤل الذي رسمه المشهد السياسي والإجتماعي في لبنان عقب الأحداث السياسية الأخيرة هنالك ما يشي بتذبذب عميق بين الركون إلى هذا التفاؤل من جهة والمكوث في حيّز التشاؤم من جهة أخرى حتى ليصح وصف اللبنانيين في هذه الفترة من تاريخ البلاد بالمتشائلين.
يخبرنا الفلسطيني إميل حبيبي (1922- 1996) في رائعته الروائية "المتشائل"، وعلى طريقته الخاصة، إن التفاؤل الذي يعقب سلسلة طويلة من المصائب والويلات والكوارث يستوجب قدراً من الجرأة قد لا يتوفّر ببساطة. فعندما يتجذّر التشاؤم في اليوميات والساعات ودقائق الأمور يصير من الصعوبة بمكان استجلاء الحدّ الأدنى من التفاؤل بصرف النظر عن التغيّرات وما قد تفيض به من بريق وهّاج. التفاؤل هنا غالباً ما يكون حذر، خجول، محدودب الظهر وفاقد الثقة بنفسه إلى حدّ كبير.
إن اللبناني المتفائل اليوم يداري تفاؤله بحذر شديد الصرامة والإنضباط والترقّب وقد تجذّر تشاؤمه من هذا البلد وقادته منذ عقود وعقود. وبالعودة إلى الصفحات الأخيرة من رواية إميل حبيبي فإن "الخازوق" غالباً ما يأبى الإنزياح بل ترى هذا "الخازوق" في بعض تجلياته محلّ استيلاء على الذهن والقلب والخيال وصولاً – ويا للمفارقة – إلى عدم قدرة المرء تخيّل عيشه بلا هذا "الخازوق". فتاريخنا في هذا البلد بصراحة القول وباطنه هو مجرد تأكيد لفرضية "الخازوق"، بالتالي، فأن يلوح في الأفق ما يشي بإمكان التخلص من "الخازوق" سيكون حتماً محل ريبة وحيرة ومحل سؤال ومن بعده سؤال...
إن مقاربة المستقبل بكمّ من التفاؤل هو حتماً ضرب من البلاهة عندما يكون ماضي التشاؤم الطويل شاخصاً بكله عبر وجوه وأسماء "وقامات" لطالما عوّدتْ متشائلي اليوم من الشعب اللبناني على أن يكونوا مغبة حذر وخوف وعدم ثقة بمستقبل هذه البلاد. لا يمكن للإنسان العاقل أن يعدّل ماضيه بمجرد اصطدامه بوجوه جديدة مهما كانت هذه الوجوه محلّ قبول ورضا ولا تشوبها – كما يقال – شائبة.
إن سردية كلمات التشاؤم تشكّل بالعمق وعلى السطح وفي المتن والهامش مجمل كلمات قاموسنا اللبناني منذ عقود وعقود، من ثم، فأن يستنسخ المرء روحه بروح أخرى مغايرة لتلك السردية الشمطاء فإن الأمر ليس بهذا اليسر.
يقول أحد الكتّاب الرائعين في كتاب له بعنوان "كلمات متجولة": "حين حصل الموت لأول مرة لم يمتلك أحد اسماً له". ما ينطبق على الموت في هذه العبارة ينطبق على التفاؤل في الأفق اللبناني اليوم. لا أظنّ أن ثمة لبناني واحد أو لبنانية واحدة يملكان القدرة على التفاؤل بإطلاق، ذلك أن هذا التفاؤل يحصل هنا للمرة الأولى وهو بالتالي رهن ذبذبة ورجرجة وسير متعرّج كسير السكارى على قارعة الطرقات.
ثمة حكيم قال مرة (وكان ذلك منذ آلاف السنين) أن الخلود يشيخ في ليلة انتظار، أما أنا فأقول إن التفاؤل في لبنان قد شاخ بسبب عقود من الإنتظار. إن المشاعر ليست بديهية على الإطلاق كما قد يتبادر إلى الذهن، وأكثر ما هو لا بديهية في هذا الصدد التفاؤل ولا سيما إذا كان هذا التفاؤل مسوّراً منذ تاريخ طويل بأسماء بعينها ووجوه بعينها وكلمات خشبية يتآكلها سوس التشاؤم النشط من كل حدب وصوب. فإذا كان "سعيد أبو النحس" في رواية "المتشائل" لحبيبي قد ذاق الأمرّين بسبب تلك المراوحة الجهنمية بين التفاؤل والتشاؤم فإن النحس الذي قد ميّز ماضينا بلبنان إلى حدّ الإرهاق يجيز لنا أن نرتاب من إمكان السعادة بعامة مهما كانت المتغيرات وما يلازمها من عون وسلام.
إن الولاء للتشاؤم هو محل مهارة فائقة في الحياة اليومية للبنانيين منذ سنوات مديدة واستبدال هذا الولاء بآخر يرتبط بالتفاؤل يحتاج إلى طقس عبور هو حتى كتابة هذه المادة محل غبش وضبابية وعدم وضوح... فالعبور إلى الضفة الأخرى عطفاً على الأحداث السياسية الأخيرة ما زال في علم الغيب!!
إن الإحالة إلى مستقبل مشرق في لبنان انطلاقاً من التغيّرات المستجدة بإحكام والتي قد ساقتها الظروف الدولية هي، هذه الإحالة، محل ترحاب وإن كانت اعتباطية إلى حد كبير ذلك أن تاريخنا المدعّم بإسمنت متراص من النكسات والخضّات والحروب والإغتيالات والإنفجارات والحدود المتفلتة والإنهيارات، يعود ليفرمل تلك الإحالة ودفع المرء بالتالي لأن يكون رهن تشاؤم إلى أمد من الدهر غير معلوم... إنه لبنان كما عايشنا وعايشناه.
إن الحذر للأسف الشديد هو دائماً سيّد المشهد، والمآلات المستعصية على الحلول هي دائماً سيدة الزواريب والساحات. هو واقع سوّر، تاريخياً، المواطن اللبناني في دائرة الإنصياع والتماشي مع أحداث "القدر"، مهما أناخت هذه الأحداث بكلكلها فوق رؤوس اللبنانيين حتى لترى داخل كل مواطن لبناني ابن مقفع صغير يقول: لا ينفع حذر مع قدر... فهؤلاء الذين قد شوّهوا الحياة في لبنان منذ سنين طويلة قد اتخذوا بالفعل داخل الأذهان صفة الأقدار التي لا مفر منها ومع هذا ليس علينا في هذه المرحلة من تاريخنا إلا أن نكون أقله، متشائلون.