صودف الأسبوع الماضي، ذكرى مرور عشرين سنة على جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لكن نجم هذه المناسبة، في هذه السنة، لم يكن رفيق الحريري وحده، بل أن النجم الذي تسلطت نحوه وعليه الأضواء والاهتمامات، وتوجهت نحوه الأبصار، كان وريثه صاحب الكاريزما "الزعاماتية" الجاذبة والمستقطبة، الزعيم المحبوب لدى أغلب جمهور أهل السنة، سعد رفيق الحريري. الذي أثبت وبقوة ومن دون منازع، انه وارث الزعامة الحريرية والشعبية الأوسع وخصوصاً لدى السنّة في لبنان.
وقد شكل وأثبت الحشد الشعبي، الذي اجتمع في ساحة الشهداء، الآتي من أغلب مناطق الأطراف والريف السني ومن حول ضريح الشهيد، أن الزعيم الشاب هو الوحيد القادر على الحشد والاستقطاب الشعبي بعد مرحلة من التراجع والغياب.لعبت التطورات في السنوات السابقة دوراً أساسياً في هذا الامتحان، وخصوصاً بعد التنكيل وأساليب "الزعبرة" والتشبيح والتعالي المجنون والاستكبار الفارغ، التي مارسها وبالغ فيها رئيس الجمهورية في العهد السابق العماد المفدى، ميشال عون وصهره المصون. وقد كانت الذروة في ذلك المقطع التلفزيوني المسرب عن قصد، والذي أسر فيه عون لرئيس الحكومة حسان دياب ناعتاً فيه شريكه المفترض في الحكم، بأنه يتعمد الكذب، بعد أن كانت الأكثرية النيابية المنتخبة قد أسمته واختارته في الاستشارات الملزمة رئيساً لتشكيل الحكومة آنذاك.
كما أن تعرضه، إثر خروجه من لبنان بعد العراقيل والمعوقات التي أقامها عون وباسيل، لوعكة صحية خطيرة ودقيقة في قلبه، زادت من حوله الاستقطاب والتعاطف والتأييد.وقد ساهم فشل كثر في الانتخابات النيابية السابقة والأخيرة، في تكوين أكثرية أو قوة معتبرة أو ضاغطة، في إثبات أن سعد هو الوحيد القادر على قيادة وتحريك دفة الشارع لدى جمهور السنة، الذي بات متاثراً ومتطلباً لزعامة ما، خصوصاً بوجود زعماء آخرين لديهم تأثير في البيئات الاجتماعية والطائفية المحيطة.
إضافة إلى إثبات قدرة سعد على الاستقطاب الشعبي، الذي ظهر في ساحة الشهداء، بعد صيغة تشاركية في التنظيم والتمويل، فإن الأسبوع الماضي حمل جملة من الإشارات الدالة والمهمة على مستوى حاضر ومستقبل تيار المستقبل في لبنان.
في المواقف التي أعلنها الزعيم الشاب، ظهر أن المسكوت عنه، والمواضيع التي تم تجاهلها، هي أكثر من المواضيع التي تم التطرق إليها والحديث عنها والمجاهرة بها. ويبدو أن الحريري قد قصد إرسال رسائل وإشارات عدة في أكثر من اتجاه، من دون أن يتحدث فيها ويعلنها.في خطابه في ساحة الشهداء تحدث الحريري عن عودة تيار المستقبل للانخراط في المناسبات والاستحقاقات المقبلة، لكنه لم يتحدث أو يلمح إلى سبب تعليق تيار المستقبل عمله ومشاركته في العمل السياسي، وأسباب عودته عن هذا القرار بعد ثلاث سنوات عجاف، أشار بخفر إلى مسؤوليته في التسوية المشؤومة التي نسجت مع التيار الوطني الحر، ومن دون تفصيل، وما أسفرت عنه من نتائج كارثية، وبطريقة مواربة.
تحدث عن اغتيال رفيق الحريري ولم يذكر حزب الله الذي تورط في اغتياله، بل اكتفى بالحديث عن العدالة الإلهية وتحققها، وهو يقصد ما جرى في لبنان وسوريا.
وإذا كانت مناسبة الخطاب أمام الضريح لا تتيح المجاهرة بكل أمر أو إثارته، فإن ما يدعو للتوقف عنده، أن الحريري حين اجتمع بكوادر تيار المستقبل لم يناقش أو يثر معهم أية إشارة إلى مراجعة نقدية أو تقييمية للماضي، أو استفادة من دروس تجربة التسوية التشاركية الكارثية مع التيار الوطني الحر، في الماضي القريب، ومواضيعه الحساسة، وخصوصاً قانون الانتخابات النيابي، الذي ساهم في إثارة وتحريك الأجواء المذهبية والطائفية في البلاد، وشوه التمثيل العادل، وساهم في خسارة التيار لقوته وزيادة قوة الآخرين من الخصوم، وخسارة أغلبية نيابية كان يملكها، وقضايا وممارسات كثيرة حدثت وأثرت في البنية السياسية والسلطوية. كما لم تصدر خلال هذا الاجتماع الداخلي، أية إشارات واضحة أو دالة نحو توجهات المستقبل.ثمة أسئلة كثيرة لا تزال مطروحة، منها ما إذا كان تيار المستقبل سيعود للمشاركة في الحياة السياسية، وتحديداً في الانتخابات المقبلة البلدية والنيابية، كيف ستكون علاقاته مع القوى السياسية الأخرى ومع نفسه، في ظل التغيرات والتبدلات في لبنان والمنطقة، وتحديداً سوريا؟ وما هي المعايير السياسية التي سيعتمدها في المقبل من الأيام؟
كيف سيكون شكل العلاقة مع الحليف والصديق السابق التيار الوطني الحر؟ مع حركة أمل، وحزب الله، والحزب التقدمي الاشتراكي، والقوات اللبنانية وحزب الكتائب والقوى المسيحية الأخرى؟
وإذا كان تيار المستقبل، الذي كان يقدم نفسه في السابق تياراً عابراً للمجموعات الطائفية، سيضم ويبقي في صفوفه تشكيلة من كل الطوائف والمذاهب؟ وهل سيعيد ويحمي هذا التنوع في صفوفه، بعد ابتعاد كثر من النخب المسيحية عنه؟ أم ستقتصر تشكيلاته الداخلية على اتجاهات من أهل السنة بمفردهم؟
كيف ستكون علاقة تيار المستقبل مع القيادة السورية الجديدة، بما تعنيه من تغير جيوسياسي عميق وأساسي، في ظل قيادة احمد الشرع، وتحالفاته في الإقليم والمنطقة العربية، القريبة والبعيدة؟أرسل الحريري عدة رسائل في أكثر من اتجاه عائلي وتنظيمي وسياسي، وهو حين وقف على الضريح مع شقيقه أيمن، أرسل رسالة إلى بقية أشقائه حول من يفضل وإلى أية جهة يميل في ظل استمرار تفاقم موقف الشقيق الأكبر بهاء.
ومن إشاراته على سبيل المثال إعلانه من دون كلام، أن الشخص الذي يعتمد عليه وسيعتمد عليه، من قلب آل البيت، هو عمته النائبة السابقة بهية الحريري، وليس أي شخص أخر، على المستوى السياسي العام والمستقبلي، بدليل وجودها في كل اجتماعاته السياسية في بيت الوسط، وسط حديث عن دور رئيسي مستقبلي، للسيدة بهية ونجلها أحمد، أمين عام تيار المستقبل، في الانتخابات النيابية المقبلة على مستوى لبنان بشكل عام، وتحديداً في بيروت وصيدا على وجه الخصوص.
ملاحظة توقف عندها كثر خلال إقامة وحركة الحريري في بيروت، هي عدم إشارة الإعلام السعودي التلفزيوني وغيره، إلى زيارته للبنان من قريب أو بعيد، وغياب السفير السعودي في لبنان وليد بخاري عن زيارة بيت الوسط، فيما زار قبل ذكرى يوم الاستشهاد في ساحة الشهداء، الأمير طلال ارسلان في دارته في خلدة بحضور نجله مجيد.
في ظل هذه الإشارات والتطورات، إلى أين يتجه تيار المستقبل، الذي سيعود إلى العمل السياسي؟ وهل سيعود سعد إلى الانخراط المباشر في السياسة؟ أم سيلعب دور المرشد والموجه عن بعد؟ أم "كل شي بوقته حلو"؟