في المقاهي العتيقة، وتحت ضوء المصابيح الخافتة، كان الحكواتي يجمع الناس حوله، يروي قصص البطولات والمعارك، يصنع الأبطال من الكلمات، ويرسم لهم نهايات مفتوحة تشدّ السامعين إلى الغد، حيث تكمل الحكاية دورتها.
كان الحكواتي فنّانًا بارعًا في سبك الحكايات، لكنه لم يكن مسؤولًا عن الواقع، بل كان صانع أوهاما جميلة تريح السامعين من قسوة الأيام.
أما اليوم، فقد انتقل هذا الدور من زوايا المقاهي إلى المنابرالسياسية، حيث تحوّل بعض السياسيين في لبنان إلى حكواتيين بامتياز. يعتلون المنصات، ينسجون القصص، يبيعون الوعود، يلوّنون الأكاذيب بحبر الشعارات، ويبرعون في سرد بطولاتهم الوهمية، بينما البلاد تغرق في أزماتها دون قارب نجاة!
من المفترض أن يكون السياسي رجل أفعال، لا رجل حكايات. لكن في مشهدنا اللبناني، نجد السياسيين يتقنون فن الخطابة أكثر مما يتقنون فن الحكم، ويبرعون في التلاعب بالعواطف بدلًا من وضع السياسات الفعالة. يجيدون الحديث عن الماضي، عن إنجازات لمتحدث ربما، عن مستقبل زاهر لا يأتي او أقله لم يأت يومًا، عن خطط وإصلاحات لم تبارح الورق.
في المقابل، يعاني المواطن اللبناني من واقع يومي يزداد سوءًا: بطالة، فساد، انهيار اقتصادي، وغياب أبسط مقومات العيش الكريم. وبينما ينتظر الناس الحلول، يقدّم لهم السياسيون قصصًا أشبه بحكايات الحكواتي، حيث الأبطال هم أنفسهم، والمخططات الكبرى تبقى مجرد سرد شفهي لا يتحوّل إلى واقع.
يشبه السياسي الحكواتي كثيرًا الحكواتي التقليدي، لكنه يختلف عنه في أمرين. فالحكواتي الحقيقي لم يكن يخدع جمهوره، بل كان يروي لهم الحكايات بهدف التسلية والإلهام، بينما السياسي الحكواتي يخدع جمهوره بوعود زائفة. علمًا أنّ الحكواتي التقليدي لم يكن يومًا مسؤولًا عن الأزمات، أما السياسي الحكواتي فهو جزء من المشكلة وليس مجرد راوٍ محايد.
السياسي الحكواتي لا يبحث عن حلول، بل يبحث عن جمهوريصفّق، عن مؤيّدين يردّدون كلماته وكأنها وحي منزّل، عن أتباع يُطربهم الكلام حتى لو كانوا يعلمون أنه محض خيال. فهو يعتمدعلى الذاكرة القصيرة للناس، وعلى قدرة الحكايات على تخديرالوعي وإلهاء العقول.
السياسة في لبنان أصبحت حكاية لا تنتهي. بل تحوّل المشهد السياسي إلى مسرح عبثي، حيث تُعاد نفس الحكايات، وتُروى نفس الوعود، وتُعاد صياغة نفس الأكاذيب. ومع كل استحقاق سياسي أو انتخابي، يُعاد بثّ الموسم الجديد من مسلسل الحكواتي السياسي، مع سيناريو مشابه، وممثلين يعرفون جيدًا أدوارهم، وجمهور يصفّق رغم إدراكه أن النهاية لن تتغير.
لكن إلى متى؟ متى يدرك المواطن أن السياسة ليست عرضًا مسرحيًا، بل مسؤولية وأفعال؟ متى يخرج الناس من دور المتلقّي السلبي إلى دور المحاسب الفاعل؟ متى يُسقطون الأقنعة عن وجوه السياسيين الحكواتيين، ويستبدلون الحكايات بالأفعال؟
في النهاية، قد يكون الحكواتي التقليدي جزءًا من تراثنا الجميل، لكنه لا يمكن أن يكون نموذجًا للحكم والإدارة. فالسياسي الذي لايملك إلا الحكايات، هو سياسي فاشل، ومجتمع يُخدَع بالسرد بدل الفعل، هو مجتمع محكوم بالتيه والتكرار.
حان الوقت لإسكات الحكواتيين في السياسة، ولإعلاء صوت العمل الجاد والإنجاز الحقيقي! أيها اللبناني، ألم يحن الوقت؟!
موقع سفير الشمال الإلكتروني