في 8 شباط/فبراير الجاري، اعترضت سيارتان من نوع بيك آب وجيب، طريق شاب عشريني يدعى حسين زيود، في مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية الساحلية، ليقوم عناصر السيارتين باختطافه إلى جهة مجهولة، قبل أن يُعثر على جثته بعد يومين مقتولاً، مكبل اليدين ومرمياً في المياه الضحلة المقابلة لساحل مدينته.
أثار الأمر عاصفة من الاستنكار والاستهجان في جبلة، التي خرج أهلها في تشييع الشاب، بما يشبه مظاهرة تطالب بالكشف عن هوية القتلة وملاحقتهم بالسرعة القصوى، رافق ذلك التشييع حالة من التضامن الواسعة على مواقع التواصل الاجتماعي.شكوى للشرعيمكن رد الحملة التي رافقت مقتل الشاب، لما ردّده عدد من أصدقاء الضحية خلال حديثهم مع "المدن"، إلى حسن سيرة وسلوك الضحية وسمعته الطيبة في المدينة، فيما اتهمته أطراف أخرى بأنه تورط بأعمال "تشبيح" خلال الحرب، وهو ما نفاه أصدقاؤه ومعارفه أيضاً.كلام أصدقاء حسين يلتقي مع حديث والده الذي قال لـ"المدن": "ولدي اختطف من مكان يخضع لنفوذ الهيئة نظرياً، على المتحلق الجنوبي، إذ لاحقته سيارة هناك، وأنزلوه بالقوة، وذلك وفق شهادة الشهود، قبل أن تصل سيارة ثانية لتكمل مهمة الاختطاف، واقتياده إلى جهة مجهولة".والد زيود راجع الأمن العام وقائد المنطقة وأشخاصاً آخرين، والجميع نفى علمه بمكان تواجد ولده أو مصيره، كما نفوا مسؤوليتهم بالكامل عن الحادثة. وفي اليوم التالي، التقى بأحد الشخصيات التي لم يرغب بذكر اسمها، ليقوم الشخص بإعلامه بأن ولده بخير وصحة جيدة وأن لديهم معلومات أنه كان في دبي ولبنان ودفع بدل الخدمة العسكرية سابقاً. وأكد الشخص أن زيود ليس عليه أي إشكالية أو جرم.ويتابع الوالد: "لأفاجأ في اليوم التالي أن ولدي قُتل. أريد أن أقدم شكوى للرئيس أحمد الشرع شخصياً، فحين توليه الرئاسة أصبح مسؤولاً عن كل شيء، وللجهات الأمنية الموجودة في جبلة، وكلّها كانت تعرف أنه موقوف في الكلية البحرية".في الأثناء، وقبل العثور على جثمان حسين –بحسب والده- ثمّة جهة تواصلت معه وطلبت فدية، وكان موافقاً، وبعد ذلك وجد ولده مقتولاً، مطالباً بأمرٍ واحد وهو إعدام قتلة ابنه الذي يعتبره شهيداً.أرقامٌ لا تنذر بالخيرومنذ سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر، وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان، مقتل 425 شخصاً في تصفيات ميدانية وعمليات انتقامية، خلال شهرين فقط، وبمعدل سبع حالات يومياً، وهو رقم كبير، لتحتل حمص المرتبة الأولى بأكثر من 140 قتيلاً، ومن ثم حماه بـ138 قتيلاً.وعلى سبيل المثال، فقد دخلت قبل نحو شهر قوى تتبع لهيئة تحرير الشام لتمشيط بعض القرى غرب حمص، ومنها فاحل، الشنية، القبو وغيرها، بحثاً عن السلاح وفلول النظام، ووفقاً لشهود عيان من المنطقة، فقد تعاملت الهيئة مع الأهالي بكل إنسانية واحترام، وانتهت الحملة على خير ما يرام، وخرجت الهيئة من تلك القرى، ليدخل بعدها بساعات، مسلحون غير مجهولين، قاموا بارتكاب مجازر راح ضحيتها أكثر من مئة مخطوف ومفقود وقتيل.وفي اليومين الماضيين، عاد التوتر إلى قرية فاحل إثر خلاف بين أحد السكان وعناصر من الهيئة، ليخرج الآلاف من أهالي القرية في مظاهرة رافعين أيديهم للسماء للدلالة على عدم حيازتهم لأي سلاح، وانتهى الخلاف بهدوء وتم حلّه ودياً، ما يبرهن مرة أخرى أن هيئة تحرير الشام وكثير من الفصائل التي انحلّت لتندمج في الجيش الوطني الجديد لا تحمل نوايا ثأرية أو انتقامية، إنما يعود ذلك لعناصر إجرامية متفلتة يصعب السيطرة عليها، وقد يكون بعضها مرتبطاً بالإيديولوجيات الجهادية الرافضة لشكل تنظيم الدولة الحالي أو هيكلته، أو من العناصر الأجنبية الذين مارسوا استفزازات متعددة في الساحل السوري في أوقات سابقة.عمق الصندوقويرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية الدكتور منار إبراهيم، أن عناصر كثيرة على الأرض لا يناسبها ما يحصل على مستوى رأس الدولة، خصوصاً التصريحات المتواترة للشرع بأن الثورة انتهت بانتهاء بموجباتها، والآن حان الوقت لبناء الدولة بمنطق وعقل البناء لا الثأر والانتقام، لافتاً إلى وجود بعض الفصائل التي "لن تقبل بهذا المنطق، فهي ما زالت تبحث عن المكتسبات والغنائم وتوزيع المناصب والثأر لـ14 عاماً من الحرب".ويدلل إبراهيم على ذلك في حديثه لـ"المدن"، بأن "أياً من المختطفين، لا يحظى بمكانة اجتماعية مرموقة، بل هو اختطاف عشوائي، كان حكراً على الرجال، والآن صارت تُختطف النساء، وهذا يعتبر وسيلة للضغط على القيادات المحلية وعبرها القيادة المركزية".ويستند في حديثه على الملتقيات الدعوية التي تُقام من دون علم أركان السلطة العليا، وعلى توزيع مناشير النقاب، ومنع اختلاط الطلبة في المدارس، وإجبار النساء على الجلوس في الخلف بالحافلات، والرجال أماماً، و"يعتقد أن كل تلك التصرفات تأتي من العقلية التي جاء بها هؤلاء الأفراد من إدلب، وهي عقلية في عمق الصندوق الذي لا تريد القيادة الجديدة شيئاً منها في خطوات انفتاحها وتحقيقها لذاتها محلياً وخارجياً".العدالة الانتقاليةولأنّ النظام المخلوع سقط بطريقة دراماتيكية، كان لزاماً على القيادة الجديدة تدشين مرحلة جديدة تراعى فيها الحقوق والواجبات وفق عقد اجتماعي ملائم، ومن بين أولويات هذا العقد يقول الحقوقي محمد سلطان، إنه: "يجب العمل على تحقيق التوازن الاجتماعي وتقريب وجهات النظر بين مكونات المجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعية والانتقالية الجامعة".وتقتضي العدالة الانتقالية معالجة آفات خمسة عقود ونصف من طغيان آل الأسد وجرائمهم بحق السوريين مع كل الانتهاكات التي حصلت، ويعتبر سلطان ذلك، الطريق نحو سوريا الجديدة.ومن شروط العدالة الانتقالية محاسبة مرتبكي الجرائم من عسكريين ومدنيين وسياسيين وحزبيين وملاحقتهم أينما كانوا والمطالبة بتسليمهم. وهذا هو الجانب الذي تعمل عليه الإدارة السورية في الجانب العام في تعويم الدور السوري خارجياً مجدداً، وضبط الأمن والأمان داخلياً، والمهمتان لا شكّ مرهقتان للغاية في بلدٍ ممزق كسوريا يحتاج اليوم كل فكرٍ ويدٍ متاحة للبناء.