نظر إلى ذلك الفك الكامل المرمى بالحقل أمامه مع ما تبقى من أسنان غطّاها التراب. من بعيد كلب شارد ينظر إليه. نظر مطولاً، ثم شهق. إنه فك بشري. فك إنسان. نظر إلى الكلب ومن ثم إلى الفك، صعد الغضب والحزن إلى رأسه، رمى الكلب الشارد بحجر صارخاً أن يبتعد عن المكان، لا طعام لك هنا إيها الكلب. يقف الرجل حائراً. ماذا يفعل بهذه الأشلاء المرمية. أشلاءً من قاتل أو كان في ذلك البيت القريب ينتظر. بيت ابو جميل المهدم أمامه. فكر أن عليه أن يأتي بكيس من بيته القريب. ولكنه خاف أن يترك الفك وحيداً. من بعيد ما زال الكلب ينظر إليه. هنا فقط انتبه ان الكلب هو من أتى بالفك حتى يجده. ربما. أين بقية الجسد؟ فكر ونظر إلى البيت المهدم لجاره، ولكنهم وجدوا بداخله بقايا ابن رمضان.
ذلك الشاب العشريني الخجول الذي استشهد في آخر الحرب كما يقولون. لا شك أن هذا الفك يعود له. ما هي البقايا التي وجدوها إذا؟ أخيرا يأتي بكيس، يضع الفك فيه، فجأة خيل له أن الفك تحرك لبرهة. كز الرجل على أسنانه من رهبة الموقف إذ خيل له أن الفك سينطق. سيروي الحكاية. يغمض عيناه يربط الكيس، ويمشي بإتجاه بيت المسؤول الجديد. يسلمه الكيس وبطرف عينه يلمح اكياس أخرى أكبر وأصغر.
أرض الجنوب مليئة بالأشلاء. يقال إن الكلاب الشاردة حملتها بعيداً من أماكن موتها أثناء الحرب. علنا نجدها في ما بعد. فك لشاب في العشرين وعظام في حقل شاسع، جمجمة تحت الركام يحملها أب ويركض مسرعاً. افكر في سرعة إخفائه للجمجمة بحضنه، في هرولته كأنه يريد أن يختلي بها ويبكي. ممنوع البكاء في العلن، ممنوع اللطم ممنوع إظهار الحزن. كيف نشفى وكيف ندفن موتانا بلا حزن. من هو السعيد هنا!
عظمة يد، سلسلة ظهر، قصبة رجل، حوض، بقايا شعر.
اتخيل مشهد تزحف فيه كل هذه البقايا، كل هذه الأشلاء. تزحف عند مغيب الشمس، من تحت الركام، في الحقل. تزحف بإتجاه بعضها البعض. يد لشاب اسمر طويل مع فك لشاب اشقر لم يتجاوز العشرين وحوض لمقاتل مربوع وهكذا. يقال ان في الليل تسمع أصوات نحيب أم وطقطقة عظام. يقال إن في الجنوب، ما أن يعم الظلام حتى تبدأ أصوات لإشلاء تفتش عن بعضها علها تكتمل تحت التراب. وصوت اخت تنوح وترقص بشالها الابيض. من هو السعيد!!! دعوها ترقص بيديها وتتمايل بثيابها السوداء وترقص رقصة الثكلى.
يرن الهاتف ليقطع تكملة هذا النص. أبي يخبرني أنه في طريقه إلى مركبا. لقد وجدوا ابن ابن عمه. دخلوا فجراً. فتشوا تحت الدمار، تحت الأنقاض، في الحقل. في الكارثة. وجدوه. طلبوا من أبيه ان يبقى بعيداً. عرفوه من قطعة البلاتينوم في سلسلة ظهره من عملية جراحية سابقة. بسرعة وضعوا ما تبقى في كيس. يخبرني أبي أنه فقط في هذه اللحظة توقف ابن عمه، الأب عن إصدار ذلك الصوت من فم أجوف. صوت صراخ مكتوم ينوح ويصدر همهمة عزائية. كان يصدره طوال شهرين، منذ اخبروه ان ابنك استشهد في مركبا ولا نعرف اين بالضبط.
هل بكى؟ أسأله. يصمت أبي، اسمع صوت شهيق دمعة على الطرف الاخر، لقد بكى أبي.
يقول وهو يحاول كتمان صوته الباكي المتشنج ." لقد وجودا العظام كلها". "صورتلك كثير فيديوهات من الضيعة" ثم يردف ليغير الموضوع "رح ابعتلك ياهم".
بالأمس قرأت عن والد خسر ابنه في الناقورة. ما ان انتهت الحرب حتى ذهب ليفتش عليه. انتظر حتى أزاحوا السقف المهدم والردم، ثم نقل كل التراب بشاحنة لمكان خالٍ وجلس يفرز ما وجده من عظام وشعر. كان يريد أن يدفن ابنه كاملاً.
في الجنوب نكبة، كارثة وأشلاء تزحف في الليل تفتش عن بقاياها، عن بعضها البعض. علها تكتمل لتروي القصة. من يروي الحكاية؟ في أننا لن نستعيد حياتنا على أطراف الجليل الأعلى. لأن جبل عامل نُكب بمسيّرة تطلق صاروخاً لتقتل شاباً مقاتلاً تبعثره وأمه تبكيه في السر وتعلنه سعيداً.
(*) مدونة نشرها المخرج اللبناني أحمد غصين في صفحته الفايسبوكية