يعرض مازن خدّاج، لدى LT Gallery (الأشرفية، مار مخايل)، مجموعة من الأعمال يقارب عددها العشرين، وذلك تحت عنوان "جبال الضوء" Mountains of Light. اللوحات تتوزع بين أحجام كبيرة وأخرى صغيرة، وقد نُفذت بتقنية الأكريليك على القماش.
الأعمال المعروضة تدور موضوعاتها حول المشهد الطبيعي، من دون أن نستثني عملاً واحداً يخرج عن هذا الإطار. هذا الأمر إن دل على شيء، فعلى أن المجموعة كلّها كانت نُفذت إنطلاقاً من انطباع مشترك كان ترك أثره على الصانع. المناسبة التي أوحت هذه الأعمال كانت وردت في مقدمة الكاتالوغ المخصص للمعرض، وهي عودة الفنان إلى مسقط رأسه عاليه، قادماً من برلين في ألمانيا، ليجد نفسه وسط الحرب التي شهدنا فصولها على مدى شهرين وأكثر، وخلّفت ما خلّفته من آثار سلبية مدمّرة في غير منطقة لبنانية، إضافة إلى إلى أثرها الذي طاول المجالات كافة.
في ظروف مماثلة، سوف يكون الفنان على مفترق طرق. فإما أن يتناول موضوع الحرب، الذي يبدو أنه أشبع على مدى ثلاثين عاماً، علماً أنه ما يزال يوحي الكثيرين، وإما أن يذهب في الإتجاه الآخر، نحو موضوعات جذبت اهتمامه من محيطه المحلّي، فيما يشبه ردّة فعل على عثرات الواقع. هذا "التناقض" لا يبدو غريباً وغير مألوف. إذ، وعلى سبيل المثال، حين كانت الدماء تسيل في بلاد أميركا اللاتينية إثر صراعات من كل نوع، رسم الفنّان المكسيكي روفينو تامايو أعمالاً تنتمي إلى نوع الطبيعة الصامته، وكان البطيخ الأحمر عنصراً طاغياً فيها. لا ضرورة، هنا، لتبيان معنى الرمز، فهو واضح. في حالة خدّاج، وجد الفنان نفسه محاطاً بجبال وهضاب تميّز الطبيعة المحيطة بمسقط رأسه، وخصوصاً من الناحية الغربية–الجنوبية، وهي جبال ذات جمالية خاصة، لم تترك الفنان لامبالياً تجاه حضورها الثابت، في تناقض مع الفوضى العامرة في أنحاء البلد، كما تفيد النشرة الخاصة بالمعرض.
ولطالما كانت الجبال ثيمة مفضّلة لدى فنانين كثر، فيما فضّل آخرون الإنصراف إلى معالجة شؤون البحر. هذه الثنائية، مع ما تحمله من تناقض وفروقات بين المكانين، لم تقتصر مفاعيلها على فناني بلدنا، بل على فنانين آخرين في هذا العالم الفسيح. هذا الخيار فرضته، في غالب الأحيان، جذور الرسّام من حيث المولد والنشأة. أمّا بالنسبة للأسلوب التشكيلي، فغني عن القول، تبعاً لمعاينة الأعمال المعروضة، أن معالجة خدّاج جاءت تبعاً لأسلوب خاص، وقد يتشارك فيه مع فنانين كانوا سلكوا الدرب نفسه. غياب المنظور في مفهومه الكلاسيكي، خطوط واضحة تفصل ما بين المساحات اللونية، وهي التي أتت صافية ومنبسطة، إضافة إلى حرية في الخيار اللوني، بصرف النظر عن توافق هذا الخيار مع معطيات الواقع، تلك هي المبادئ العريضة التي سار عليها خدّاج في أعماله. من جهة أخرى، ثمة تداخل ما بين هذه المساحات، لا يكون دائماً على مستوى "الإلغاء"، بل يمكننا رصد ضرب من التشفيف، بحيث ينتقل اللون من الكامد إلى الفاتح ضمن المساحة اللونية الواحدة.
هذا الأمر، لو شئنا إيجاد تفسير مبسّط له، يمكننا القول إنها عملية الإنتقال من الظل إلى الضوء، وذلك إستناداً إلى تسمية المعرض نفسها: جبال الضوء. يأتي الضوء على هيئة موجات منحنية، وقد يأتي أيضاً على شكل شعاع يخترق مساحة اللوحة. أما من ناحية صوغ المساحة التشكيلية نفسها، فلا شك أن الجزء العلوي، المخصص للسماء المفتوحة، كان سمح بتبيان رسم الجبال خطوط الجبال، مما يلعب دوراً أساسياً في التكوين العام للعمل.
وإستناداً إلى ما نلحظه لدى مازن خداج، أكان من حيث الموضوع أو المعالجة، فإن هناك ما يذكّرنا بالفنان الروسي – السوفياتي نيقولا قسطنطين ريريخ (1874- 1947). وسوف نستغل هذه الفرصة من أجل إلقاء الضوء على هذا الفنان، الذي كان أيضًا شاعرًا وكاتبًا وجامعًيا وعالم آثار ومعلمًا وإداريًا، والذي تعرفة قلة من جمهورنا الفني، وذلك لما في هذه الإضاءة من فائدة فنية، وإثراء للموضوع.
كان ريريخ وزوجته إيلينا قد أسسا جمعية "أجني يوغا"، المستوحاة من الفلسفة الثيوصوفية. انطلق الفنان، الذي كان مديراً للجمعية الملكية لتشجيع الفنون، مع زوجته وابنهم جيورجي وستة من أصدقائهم، العام 1926، في رحلة استكشافية مدتها خمس سنوات إلى آسيا. وبحسب كلمات ريريخ نفسه، "انطلقت الحملة من سيكيم، ثم مرت عبر البنجاب، وكشمير، وجبال كاراكورام، وخوتان، وكاشغر، وقره شار، وجبال ألتاي، ومنطقة أوريوت في منغوليا، ومنطقة جوبي الوسطى، وكانسو، وتسيدم، والتيبت"، مع الالتفاف عبر سيبيريا إلى موسكو. وفي الفترة الواقعة بين صيف عام 1927 ويونيو/حزيران 1928، بدا الأمر وكأن الحملة فقدت وجهتها، حيث انقطعت كل الاتصالات بها لمدة عام. إذ، وعلى الرغم من أن جوازات سفرهم تذكر التيبت، فقد أوقفت السلطات التيبتية الحملة بالقوة لمدة خمسة أشهر، وأجبر أعضاؤها على العيش في خيام في درجات حرارة تنخفض تحت الصفر، والاكتفاء بحصص غذائية ضئيلة. توفي خمسة رجال من البعثة في هذا الوقت. وفي مارس/آذار 1928، سُمح لهم بمغادرة التبت وواصلوا رحلتهم جنوباً للاستقرار في الهند، حيث أسسوا مركزاً للأبحاث الأثرية هو "معهد أبحاث الهيمالاي".
هذا الفنان الكبير، الرحّالة والمغامر، الذي كان مشبعاً بروح الشرق والميول الروحية، أنتج، خلال رحلته الاستكشافية الأولى المذكورة إلى الهند معظم لوحاته المخصصة لجبال الهيمالايا. أُعجب ريريخ بهذه السلسلة الجبلية، ورأى فيها روحانية عظيمة دفعته إلى إنتاج تركيبات لا مثيل لها من حيث الإضاءة وثراء الألوان، ما يمكننا من تلمّس عظمة تلك الأماكن التي أراد أن يظهرها في لوحاته، التي غالبًا ما تتميز بالتلميحات البوذية، أو تسكنها شخصيات دينية وأسطورية مختلفة. وفي هذه المناسبة، يقترح أن الأسطورة المتعلقة بأرض رائعة كانت موجودة منذ زمن طويل في محيط هذه المنطقة الصغيرة، تأتي من أسطورة أخرى مذكورة في وقت مبكر من القرن الحادي عشر في النصوص المقدسة للبوذية التيبتية. وبعبارة أخرى، فإنه يصل إلى تحديد، من خلال مصطلحات مبطنة، المنطقة الواقعة بين بيلوفوديا (أو مملكة المياه البيضاء) وشامبالا (حرفيًا مصدر السعادة)، وهي منطقة فردوسية مخفية في مسافات جبلية يصعب الوصول إليها.