لم يتغير الطريق من بيروت إلى الجنوب. الزحمة ذاتها، تمتد من الضاحية حتى صور تقريبًا. المحال مشرعة، الأفران مزدحمة، والمقاهي تضج بروادها. لكنها حركة تبدو أشبه بواجب يومي، لا نشوة فيها، ولا طمأنينة. كأن كل شيء يسير بحكم العادة، وليس بإرادة الحياة.
لكن كلما توغلنا جنوبًا، تراجع الصخب وكثرت الرايات والأعلام وصور الشهداء بدل اللافتات الإعلانية. على طول الطريق، الاستعدادات قائمة ليوم تشييع قادة حزب الله: بسطات تبيع الأعلام، صور الشهيدين، السيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، وشالات سوداء تحمل شعارات المقاومة. الأناشيد واللطميات تنبعث من مكبرات صوت صغيرة، كأنها تمهّد النفوس ليوم العزاء المؤجل.
في مقبرة روضة الشهيدين في الضاحية، المشهد معتاد لكنه لا يفقد ثقله. القبور تكتظ، ولم يعد هناك متسع، حتى بات الشهداء وكأنهم يتشاركون القبور نفسها، وربما صارت متراكبة فوق بعضها. البلاط أزيل. سيُدفن في القبر الواحد أكثر من شهيد، كأن الموت صار تقاسمًا كما كانت الحياة.
عند قبر ما، جلس رجل، يده مصابة على الأرجح بانفجارات جهاز "البيجر"، يحدق في قبر ابنه العشريني، يتمتم بصوت لا يسمعه أحد، كأنه يحاول إقناع نفسه بأن الولد لم يرحل تمامًا. على الجهة المقابلة، شاب ثلاثيني، عينه مضمدة بسبب الجهاز نفسه الذي انفجّر بوجهه، يسلم على صديقه قائلاً: "إيه والله، جينا نشوف الحبايب. عقبالنا".
إلى جوار الروضة، في مجمع هونين، حيث يدفن أهالي القرى السبع، دُفن هاشم صفي الدين كوديعة. صورته معلقة على القبر، يحيط به الورد الأحمر والأبيض. قبره الأكثر ترتيبًا بين كل القبور. أربع نساء يحطن به، وجوههن محتقنة، يبكين بصمت، لا نشيج، لا صراخ، بل وجع مكبوت.المقابر تضيق بالشهداءفي بنت جبيل، لم تعد المقبرة الشاسعة تحتمل المزيد. الأرض امتلأت بالقبور، الأسماء متراصة على الشواهد، التواريخ متقاربة، الفارق بين الميلاد والاستشهاد ضئيل، كأن الحياة مجرد جملة اعتراضية بين موتين. وهنا بدأت أعمال توسعة المقبرة، الجرافات تعمل على شق أرض جديدة، استعدادًا لقبور لم تحفر بعد، لكنها معروفة المصير.
في زاوية المقبرة، حيث شواهد الشهداء مصطفة بانتظام، جلست عائلة، ثلاث نساء ورجل، يحيطون بقبر جديد. الأم، بملامحها المتجمدة، تحدق في اسم ابنها المحفور على الرخام الأسود، تمرر أصابعها على الحروف كما لو كانت تتحسس وجهه. إلى جانبها، شقيقتاه، تهمسان بشيء، تتذكران ربما نكتة كان يرددها، أو عادة صغيرة لم تكن تعني شيئًا، لكنها الآن تعني كل شيء. الرجل، الأب أو الأخ، يجلس على مسافة، صامتًا، يحدق في الفراغ، كأن الكلام لم يعد يجدي. في بنت جبيل، لا شيء يوحي بأن هذه المقبرة ستكون الأخيرة، أو أن التوسعة الحالية ستكفي. الأرض هنا تأكل أبناءها، ثم تطلب المزيد، والأهالي يلبون.
في ميس الجبل، عند نصب الشهداء، كان الأهالي بالكاد ينتظرون فرصة دخول البلدة، ليس لتفقّد البيوت، بل لزيارة القبور أولًا. فالمقبرة تعرضت للقصف، كما لو أن الموتى لم يُقتلوا بما يكفي. الحجارة مدمّرة، الشواهد متشققة، والأسماء على الرخام مطموسة جزئيًا، لكن القبور لم تختفِ، وما زال للأرض ذاكرة تحتفظ بأصحابها.
هنا أيضًا، النساء وحدهن يجلسن عند القبور. لا رجال. كأن الحزن صار شأنًا نسائيًا محضًا، وهو كذلك على امتداد مواكب نساء العباءات السوداء التي رأيناها في كل قرية جنوبية. زوجة تمسح الغبار عن قبر زوجها بحركات هادئة، كأنها تعتني به كما كانت تفعل في حياته. أخرى تعيد ترتيب الورود الذابلة، كأنها ترفض أن يطغى الموت على التفاصيل الصغيرة. بعضهن يتهامسن، يقرأن الفاتحة، أو يراقبن بصمت تلك الأرض التي تبتلع الأحبة ولا تكتفي.
الرجال أقل حضورًا، مشتّتون، يمرّون سريعًا أو يقفون بعيدًا، كأن هذه المساحة لم تعد لهم. أو ربما لأن الرجال لم يعودوا بأعداد تكفي للحزن.الشهادة قدر لا يُناقشلا يُقال "قتيل"، بل "شهيد". الموت هنا ليس مجرد مصير، بل معنى، عقيدة، طريق لم يُختر، بل فُرض، ثم صار خيارًا لا يقبل الجدل. فكرة الشهادة ممتدة من كربلاء، متجذرة فيها. فالحسين حين حوصر، لم يختر البقاء، بل رفع "هيهات منا الذلة". ومنذ ذلك الوقت، لم يعد يمكن تصور الجنوب إلا ككربلاء مكررة، معاركها تُخاض بالقناعة نفسها، والدماء تُراق بالسردية ذاتها.
لكن، كم شهيد سقط فعلاً في هذه الحرب؟ لا أحد يعلم. الأرقام غير واضحة، كما لو أن الدم المسفوك لم يعد يُحصى، أو لم تعد هناك ضرورة لإحصائه. نعي اثنين على أنهما من الشهداء، ثم عادا أحياء في كفركلا بعد أشهر. كأن الموت ليس يقينًا، بل احتمال يخضع للتعديل.
ومع ذلك، هناك من لا ينتظر الإحصاء. هناك من يدفع الثمن سلفًا. عائلات الشهداء تتلقى الإعالات. فالشهادة هنا ليست فقدانًا فقط، بل تعويض أيضًا. نوع من العدالة الاجتماعية يُصرف على شكل مساعدات، كأن المقاتل حين يذهب إلى الموت، يحمل معه الضمان الصحي والمعيشي لأسرته.
لكن، هل تتوقف هذه الدورة؟ هل ثمة نهاية لهذا الموت المتكرر؟ يبدو السؤال نفسه خارج السياق، لأنه ببساطة، كما يقول البعض في الجنوب، الحرب لم تنتهِ، ولن تنتهي. هي فقط تهدأ أحيانًا، ثم تعود لتستعر.
في الجنوب، لا يمكن اعتبار الحرب حدثًا طارئًا، بل هي الأصل، هي القانون، وكل ما عداها هدنة مؤقتة، انتظار لمعركة لم يأتِ دورها بعد.