أمضيت أوقاتاً طويلة في طفولتي ومراهقتي، أشاهد محطة "غصباً عنك"، أو التلفزيون السوري في نسخته الأسدية البعثية، وكانت كلمة "السيد الرئيس" تحتل الفضاء العام للكلمات والتقارير والمناسبات الرياضية والثقافية والفنية والسياسية والعائلية.ذلك أن القناة، قبل غزو الفضائيات والكابل، وقبل طفرة المسلسلات وأسطوانة باب الحارة والمكسيكي والتركي، كانت تعرض مسلسلاً درامياً واحدا على ما أذكر، على الأغلب مصري صعيدي، وساعة للأطفال عند العصر. لكنها خصصت كل شيء من الألف إلى الياء، في برامج ونشرات الأخبار، لما فحواه سيادته أو السيد الرئيس. قال السيد الرئيس، ودّع السيد الرئيس، وأشاد السيد الرئيس، (جمعها سادة) عدا الألقاب الأخرى، "الرفيق الأمين القطري للقيادة"، "القائد العام للجيش والقوات المسلحة"، "رئيس الوزراء" و"قائد الأمة العربية" و"قائد الحركة التصحيحية"، "باني سورية الحديثة"، "بطل حرب تشرين".. الخ. حتى صارت عبارة السيد الرئيس، في الذاكرة الطرية، شكلاً من أشكال الفظاظة والصلافة، فيها جوانب من لغة الاستبداد وروائحه التي لا تحتمل، والتي ربما تحتاج كتاباً مفصلاً لتفنيدها وتشريحها.أيضاً، أمضيتُ سنة من شبابي في "خدمة العَلم" الإلزامية آنذاك. وعدا عن بؤس تلك الأيام، وأوهام اللُّحمة الوطنية، كان الإلحاح في أيام التدريب العسكري، على تعابير"حضرة الرقيب" و"سيدي العميد"، و"سيدي النقيب"، و"سيدنا"، من مقتضيات التراتبية العسكرية التي تفرض كلماتها. لكنها كانت نوعاً من ثقافة لم أتقبلها في أي لحظة، أنا الآتى من عالم القراءة والمُثل الأدبية والرفاقية والواهم بالمساواة بين الشعوب. ففكرة تسييد أشخاص، ولسبب ثقافي وحتى إجتماعي ولغوي، تعيدني إلى منطق "السيد العبد" في التاريخ وألف ليلة وليلة والقصص الكثيرة التي أنفر من مضامينها.لقد رسخت بعض الثقافات القديمة صورة نمطية عن "السيد والعبد"، وإن كانت تنتمي إلى القصص والتاريخ. بالتوازي، ثمة صورة وثقافة فرضتها أحداث وحروب لبنانية، ربما تجاوزت منطق تلفزيون الأسد وشطحاته واستبداده، ومنطق التراتبية العسكرية، وتتمثل في تعبير "فدا إجر السيد" الذي لطالما تردّد في المناسبات الحزبية وعلى الشاشات وفي المهرجانات وقبل الحرب وبعد الحرب وفي العزاء وفي الرثاء. ذلك رغم أن أمين عام "حزب الله" الراحل، حسن نصر الله (1960-2024)، ورث اللقب عن أسرته، ولم ينسب له بفعل منصب سياسي أو ديني (يطلق الشيعة الاثنا عشريون والعلويون لقب السيد على كل من ينتهي نسب أبيه إلى النبي محمد من طريق ابنته فاطمة الزهراء). لكن المغالاة والإفراط في التعبير صارا نوعاً من السياسة في خضم الانقسام، أثارت الجدل على مدى سنوات.ونصل إلى بيت القصيد. حين سمعت وزير الإعلام في الحكومة الحالية، بول مرقص، يتلو مقررات مجلس الوزراء في ما يخص البيان الوزاري، ردّد أكثر من مرة تعبير "السيد رئيس الجمهورية"، و"السيد رئيس مجلس الوزراء". ورغم أن مصطلح "السيد الرئيس" يتماشى وطريقة الخطاب البروتوكولية المتفق عليها في العالم، لإظهار الاحترام للشخص الذي يحمل الرتبة الأعلى في البلاد، إلا أن الترجمة تذهب إلى معانٍ مغايرة. فـ"مستر بريزيدانت" بالانكليزية أو "مسيو" بالفرنسية أقرب إلى "الأستاذ الرئيس". أما "السيد" فوقعها بالعربية مختلف. ولذلك كان لـ"السيد الرئيس"، في السياق اللبناني، وقع النشاز في أذني، ربما لأننا لم نعتد عليها في الإعلام المحلي، ولأنها مستعملة في العسكر والقضاء لكنها لطالما بقيت بعيدة من الشاشة. وسبق أن أُقرّت عبارة "السيد الرئيس" في زمن الرئيس الأسبق الراحل الياس الهراوي، لكن الإعلاميين دأبوا على استخدام "فخامة الرئيس"، "دولة الرئيس"، "معالي الوزير"، "سعادة النائب". ربما لأن المعنى الشعبي والثقافي لكلمة "سيد" يختلف عن المعنى البروتوكولي والدولتي. وإذا كانت لا علاقة لأي من الرؤساء باختيار بول مرقص لقب "السيد" قبل أسمائهم ومسمّيات مناصبهم، فإن استخدامها، وخصوصاً من قبل وزير للإعلام، يزيد من نفورها.و"السيد الرئيس"، على ما نعلم، رواية لميغل أنخل أستورياس، يتناول فيها بأسلوبٍ ساخرٍ يَرقى إلى حدِّ المأساة، صورةَ الديكتاتور، إذ استمدَّها من شخصيةِ مانويل إستيرادا كابريرا الذي حكَم غواتيمالا عشرين عاماً، وهو يخاطبه: "سيدي الرئيس! سيدي الرئيس! السماء والأرض مَلِيئتان بأمجادك!".