ثمة صورتان قد تعدان الأبلغ في فهم عقلية الرئيس الأميركي دونالد ترامب: كيف يعيش في الفنادق، وكيف يعقد الصفقات ويفرض نمط تفكيره على من حوله.
في الثمانينيات، عندما كان دونالد ترامب ما زال مجرد رجل أعمال طموح في نيويورك، كان يسير وسط أبراج مانهاتن ويتحدّث عن صفقات العقارات كما لو كانت ممالك سياسية. فلما استحوذ مثلاً على فندق بلازا الشهير العام 1988، وصفه حينها قائلاً: "لم أشترِ مجرد فندق، بل قطعة من التاريخ، قطعة من نيويورك نفسها". لم يكن ذلك مجرد استثمار عقاري، بل كان درسًا مبكرًا في كيفية تحويل النفوذ الاقتصادي إلى سلطة سياسية. فكما يرى ترامب في ممتلكاته امتدادًا لصورته، فقد رأى في السياسة فرصة لتوسيع إمبراطوريته، وكأن الوطن نفسه لا يعدو كونه فندقًا فاخرًا يمكن بيعه أو استبداله إن لم يحقق الربح المطلوب.
الصورة الثانية كشفها مقربون منه وهي كيف يعيش يومه المعتاد، وهذا أمر تحدث به مؤلفون تناولوا فترته الرئاسية الأولى. السيد القوي يحب تناول الطعام في سريره الكبير، يجلس أمام شاشة التلفاز الكبيرة يشاهد محطته المفضلة "فوكس نيوز"، يلتهم وجبات ماكدونالد السريعة ذات الحجم العائلي، يثرثر ويثرثر، ثم يفتح هاتفه الذكي ويغرد بأي فكرة تخطر في باله. هذا العرين هو "الوطن - Home" بمفهوم رجل العقارات الأبرز والذي تربع على عرش الإمبراطورية. إنها سعادة الاستهلاك.
اليوم، ترامب يعود إلى البيت الأبيض مجددًا في ولايته الثانية، لكنه لم يتغير كثيرًا عن ذلك الرجل العقاري الذي رأى في السياسة وسيلة لإدارة صفقات ضخمة. من جديد، يتعامل مع القضايا العالمية كما لو كانت مشاريع استثمارية، وآخر ما طرحه بشأن غزة ليس استثناءً. حتى لربما يمكن أن نصفه والأمر كذلك بأنه رئيس المقاولات الأميركية المتحدة.
عندما قال ترامب ذات مرة إن "الصفقة هي كل شيء"، كان يلخّص فلسفته في التعامل مع القضايا الدولية: فالقيم والأخلاق والإنسانية مجردُ تفاصيلَ ثانوية أمام "الصفقة المربحة". هكذا تُعامَل غزة في خطابه: كفندقٍ يُغيّر نزلاءه حسب الطلب. لكنّ هذه الرؤية تتجاهل حقيقةً أساسية: الفلسطينيون ليسوا "نزلاء" عابرين، بل هم مَن حفرت أقدامُهم آثارًا في تراب هذه الأرض عبر قرون. تصريحات كهذه لا تُهين الفلسطينيين فحسب، بل تُهين مبدأ "الحقوق الوطنية" نفسه، الذي تقوم عليه الشرعية الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ميريلاند أو ريفييرا الرعب
في أحدث تصريحاته المثيرة للجدل، تحدث ترامب عن فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة وتحويلها إلى "ميريلاند" أو "ريفييرا" جديدة، مما يعكس منطقه العقاري الصرف في إدارة الأزمات الدولية. في نظره، الحلول ليست سياسية أو أخلاقية، بل ببساطة تقوم على "إعادة التطوير"، وكأن الشعب الفلسطيني مجموعة من المستأجرين يمكن نقلهم إلى وجهة أخرى إذا كان العقار غير مربح بما يكفي.
سياسات ترامب تجاه فلسطين لم تكن مفاجئة لمن يفهم طريقة تفكيره. من "صفقة القرن" إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، يرى ترامب أن حل النزاع ليس عبر تحقيق العدالة، بل عبر فرض وقائع جديدة على الأرض. في نظره، كل شيء قابل للمساومة والمفاوضة طالما أن هناك من يدفع الثمن. غزة، في هذا المنظور، ليست سوى عائق أمام هذا التصور التجاري.
ترامب لم ينظر يومًا إلى الفلسطينيين كشعب يستحق تقرير مصيره، بل كرقم في معادلة تجارية. حتى عندما كان رئيسًا في ولايته الأولى، لم يكن يرى في معاناة الناس سوى تفاصيل هامشية، وكان خطابه دائمًا مشبعًا بالمنطق البارد لرجل العقارات الذي لا يفكر إلا في الأرباح والخسائر.
الوطن فندق فاخر
ترامب لم يخترع هذه الفكرة، لكنه جسّدها بطريقة غير مسبوقة في السياسة الأميركية. فبالنسبة له، الوطن ليس إلا فندقًا، يمكنك أن تقيم فيه طالما أن الأمور تسير وفق مصلحتك، وحين تبدأ المشكلات، يمكنك حزم حقائبك والانتقال إلى مشروع آخر. هذا التفكير هو ما دفعه إلى اتخاذ قرارات كارثية على المستوى الدولي، من الانسحاب من الاتفاقيات الدولية، إلى تحطيم أي فرصة لحل عادل للقضية الفلسطينية.
لكن المشكلة الأكبر ليست في ترامب وحده، بل في التيار الذي يمثله. فكرة الوطن كمشروع استثماري تتجاوز شخصه، وتجد صدى في أوساط اليمين المحافظ المؤيد له، وفي قطاع واسع من رجال الأعمال الذين دخلوا السياسة لرؤية الدول كفرص تجارية لا كمجتمعات بشرية تحتاج إلى قيادة عادلة.
في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لولايةٍ رئاسيةٍ ثانية، تعود معه رؤيته الصادمة لقضايا العالم، والتي تتعامل مع الجغرافيا السياسية كساحةٍ لصفقات العقارات، وحقوق الشعوب كأرقامٍ في معادلةٍ مالية. تصريحاته الأخيرة حول "تهجير الفلسطينيين من غزة" وتحويل القطاع إلى "ريفييرا الشرق" أو "ميريلاند" ليست مجردَ تهويماتٍ إعلامية، بل تعكس استراتيجيةً ممنهجةً تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة تحت شعار "أميركا أولًا"، حتى لو تطلَّب الأمر دفنَ حقوقٍ تاريخيةٍ وإنسانيةٍ تحت أنقاض المشاريع الاستعمارية الجديدة.
تحويل غزة إلى "منتجع سياحي" هو استمرارٌ لنموذجٍ استعماريٍّ قديمٍ: إفراغ الأرض من سكانها الأصليين، وإعادة تعبئتها بهُويةٍ جديدةٍ تخدم سردية القوة الغالبة. لكنَّ الجديد هنا هو استخدام أدوات العولمة: فـ"ميريلاند غزة" ستُسوَّق كفرصةٍ استثماريةٍ لجنرالات الصناعة المالية، بينما يُعاد توطين الفلسطينيين في "دول صديقة" تحت ذرائع إنسانيةٍ وهمية. هذه الرؤية لا تختلف عن مشاريع التهجير الاستيطاني الصهيوني، إلا أنها تأتي بلغةٍ "نيوليبرالية" تلبس ثوب التنمية والسلام. والخطير هنا هو تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحررٍ إلى "أزمة لاجئين" تُدار عبر مفاوضاتٍ سريةٍ ومساعداتٍ مشروطة، ما يُعمّق تفتيتَ الهوية الوطنية الفلسطينية، ويُفرغها من مضمونها النضالي.
تُظهر حماسة ترامب الاستعلائية أن النظام الدولي، برغم كل شعاراته، ما زال رهينةً للتوازنات الجيوسياسية. فتصريحات التهجير الصريحة تشكل انتهاكًا سافرًا للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر ترحيل السكان في الأراضي المحتلة. لكنّ ترامب، الذي حوّل القانون الدولي إلى "ورقة ميتة" عبر الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وضمّ الجولان، يمتلك الآن تفويضًا شعبويًّا لمضاعفة سياسات اللامبالاة. الأكثر إثارةً للاشمئزاز هو صمتُ المجتمع الدولي وخصوصا دول الغرب التي تتعامل مع انتهاكاته كـ"تصريحاتٍ استفزازيةٍ عابرة"، بينما تستميتُ في حماية مصالحها مع الإدارة الأميركية، حتى لو كان الثمنُ تشريعَ أبشع أشكال التطهير العرقي.
هناك درس تعلمته الولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان والعراق، لكن ترامب يسهو عنه أو يتجاهله وهو أن الغطرسة لا تجدي نفعا أمام الحق. الفلسطينيون، برغم الحصار والمعاناة، لم يصبحوا حمَلة حقائبَ سفر تُنقل من منفى إلى آخر، بل هم شعبٌ يكتب فصول مقاومته بلغةِ الحجارة والأشجار والكلمات المقاومة. غزة ليست فندقًا، وليس من حقّ أحدٍ أن يُعلّق على بابها لافتة "مغلق للتجديد". التاريخ يُعلّمنا أن الأرض تُحرَّرُ بإرادةِ أهلها، لا بتصريحاتِ المُستعمِرين.